اللهم قد بلغت من قبلُ ، وبلغت من بعدُ ..!!
المقدمة !! :
يتكرر هذه الأيام من قبل بعض الحاقدين والجهلة ، ودعاة التقسيم والأقلمة لمصالح ذاتية ومناطقية ضيقة ، وبترتيب مخططات من دوائر داخلية وخارجية لتمزيق المنطقة والهيمنة عليها ، والتصراع فيما بينها من بعد ، فأقلها هذا الصراع الطائفي – القومي الذي نشهده اليوم ، وما هو إلا تمهيد ، في حين تتوحد دول العالم المتحضرة المتباينة في لغاتها وأديانها وعروقها وجذورها وتاريخها ، أقول يتكرر قولهم زاعمين جوراً وظلماً لخداع الجماهير والعقل الجمعي أن العراق دولة حديثة العهد ، و لم تكن هنالك دولة للعراق قبل 1921م ، وينسون أن العراق كان عراقين ، عراق العرب ، وعراق العجم ، وعراق العرب كان يمتد من ديار بكر حتى البحرين ونعني الساحل الشمالي الشرقي للجزيرة العربية ، ومعها الأحواز ، وعراق العجم يشمل المنطقة الجبلية من جبال حمرين وجبال الكرد وفي الرسوم والضرائب يمتد نفوذ عراق العجم حنى الري ( طهران) !!هاكم هذا البحث المهم توعية للجاهلين ، ولطمة على وجه الحاقدين ! كل الحقائق أمام الشعب ، والتاريخ لن يرحم الخارج والداخل إن سارت الرياح بما لا تشتهي السفن ، وما دعوتهم للأقلمة المتحضرة التي ينعم بها العراقيون بالسلم والأمان إلا خدعة للصراعات الدموية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية ، حارِ حذار من الوقوع بالفخ ، ألا هل بلغت اللهم أشهد !!!!
ألا يا حمامات العراق أعنني *** على شجني ، وابكين مثل بكائيا
يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ ****فياليتني كنت الطبيب المداويا
المقالة :
1 – جذور كلمة العراق من أوروك أو عروق وشيوعها في الآفاق :
يذهب المستشرقون ، وهم على العموم يغرّبون ، أنَّ كلمة العراق أصلها سومري من (أوروك) ، والتي مدّت الآن للوركاء ، ودوّن كلكامش في ملحمته أنه سورها ، وأقام فيها معبداً للآلهة (عشتار) ، وأوروك أو ( أونوك) تعني المستوطن ، وسيأتيك الشاعر العربي و (وطنه) ، فترقبه ، ويذهب العرب أن الكلمة عربية الأصول ، حجازية المنطلق ، إذ يطلق أهل الحجاز كلمة العراق على الشاطئ ، أو سفوح الجبل ، وقيل : سمي عراقا لأنه استكف أرض العرب ، وزعم الأصمعي – كما يذكر ابن منظور في لسانه – : إن تسميتهم العراق اسم عجمي معرب ، إنما هو إيران شهر ، فأعربته العرب فقالت : عراق ، وإيران شهر : موضع الملوك ، قال أبو زبيد:
مانعي بابة العراق من النا *** س بجرد تغدو بمثل الأسود
ويروى : باحة العراق ، ومعنى بابة العراق : ناحيته . والباحة : الساحة ، ومنه أباح دارهم . الجوهري : العراق بلاد تذكر وتؤنث ، وهو فارسي معرب ، قال ابن بري : وقد جاء العراق اسما لفناء الدار ، وعليه قول الشاعر:
وهل بلحاظ الدار والصحن معلم *** ومن آيها بين العراق تلوحُ
واللحاظ هاهنا : فناء الدار أيضا (1) ، بينما الخوارزمي يردّها للغة الفارسية من المفردة ( إيراك) أي الأرض السفلى ،لأنها أرض سهلية تقع ما بعد السلاسل الجبلية الفارسية والكردية والآذرية ، ويروي الحموي في (معجم بلدانه) في معرض حديثه عن العراق : ” قيل: سميت بذلك لاستواء أرضها حين خلت من جبال تعلو وأودية تنخفض والعراق الاستواء في كلامهم كما قال الشاعر:
سقتم إلى الحق معاً وساقوا *** سياق من ليس له عراقُ …” . (2)
ويرى بعضهم أن العراق أصله من عروق دجلة والفرات وروافدهما ، فهي كالأعصاب في بلاد ما بين النهرين ، واجتهد غيرهم ما العراق إلا من تشابك عروق أشجار النخيل في أرض سواده الطيبة ، فهو جمع لعرق ، وقيل من عراقة البلاد العريقة بالقدم ، ومنها الأصل العريق ، ويقول الممزق العبدي في عمرو بن هند أحد ملوك الحيرة ، فهو شاعر جاهلي قديم ، اسمه شاس بن نهار من نكرة ، وما كان ممزقاً ، لولا كلمة القافية من بيته الأول الآتي :
فإِنْ كُنْتُ مأَكُولاً فكُنْ خَيْرَ آكلٍ ******* وإلاَّ فأدْرِكْني ولمَّــــــا أُمَزَّقِ
فإنْ يُعْمِنُوا أَشَئِمْ خِلافاً عَلَيْهُمِ ** وإِنْ يُتْهِمُوا مُسْتَحْقِبى الحَرْب أُعْرِق ِ(3)
وأعْرق القوم , بمعنى أتوا العراق ، ومن سخرية الأقدار أنَّ عراق الجاهلية الذي كان ملتمساً آمناً ، طيباً ، شافعاً ، لمن يتهم بالفرارعندما تضيق المخارج آبان الحروب ، أصبح اليوم أشبه بالبلد الغريق على يد أبنائه العماليق ، وليسوا بـ (عماليق) ذاك الزمان ! (4) . مهما يكن من أمر جذور الاسم ، أنا أميل لعراقتها العربية على أرجح ظني ، لأن القاف والعين حرفان عربيان أصليان،لايوجدان في اللغات القديمة ، ولا باللغة الفارسية , والكاف والهمزة أسهل نطقاً وألين على اللسان منهما ، وهما أيضاً من الحروف العربية الأصيلة ، فما هو الموجب لتحويرهما ، وتعقيد نطقهما ، والناس أميل للتسهيل والتخفيف ، ولو أنهما منحا العراق مهابة وشدّة وضخامة ، وخففهما ألف اللين كثيراً ، وزادهما جمالاً ورونقا ، ولكن لماذا لم ينطق العرب الورقاع و عوروقَ ، بدلا من الوركاء وأوروك !! والطيور على أشكالها تقع ، والله الأعلم.
اسم العراق يشتهر:
بدأ العراق يكتسي اسمه الواسع منذ سيطرة الساسانيين ، وبزوغ مملكة آل فهم (211 م) في الأنبار والحيرة حتى شاعت الكلمة في القرنين الخامس والسادس الميلاديين ، ووردت في الشعر الجاهلي على لسان الشاعر الفارس جابر بن حُني التغلبي – المعاصر للممزق الآنف الذكر – ، على أغلب الظن توفي التغلبي سنة ميلاد النبي (ص) ( 570 م) ، وذلك في قوله:
وفي كل أسواق العراق أتاوةٍ***** وفي كل ماباع امرؤ مكس درهم ِ
تعاطى الملوك السلم ما قصدوا بنا ***** وليس علينا قتلهم بمحرم ِ
ولمّا طلَّ الإسلام ، وبزغ شعاعه ، سئل النبي (ص)عن العراق بعد مباركته الشام والحجاز واليمن ، قال : ” إن إبراهيم هم أن يدعو على أهل العراق فأوحى الله تعالى إليه : لا تفعل إني جعلت خزائن علمي فيهم وأسكنت الرحمة قلوبهم. ” (5) ، وأخذت تتكرر كثيراً كلمة ” يا أهل العراق : …” في خطب الخطباء كالإمام علي (ع) ، والحجاج بن يوسف الثقفي ، وغيرهما ، تجدها في العديد من المصنفات ، وجمعها الأستاذ أحمد زكي صفوت في كتابه (جمهرة خطب العرب …) بثلاثة أجزاء .(6)
ألا يا حمامات العراق أعنني :
واشتهر قيس بن الملوح والملقب بمجنون ليلى ( 24 هـ / 645 م – 68 هـ / 688) ، وما هو بمجنون ، وإنما شاعرغزل عربي ، مرهف الحس من المتيمين ، من أهل نجد بأبياته الشهيرة بذكر ليلاه وعراقها ، الرجل عاش في فترة خلافة مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان في القرن الأول من الهجرة في بادية العرب ، اقرأ ، ولعلك رددتها من قبلُ :
ألا يا حمامات العراق أعنني *** على شجني ، وابكين مثل بكائيا
يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ ****فياليتني كنت الطبيب المداويا
وكُرر صدر البيت الأخير في صدر ٍ آخر ، لا أعلم هل الشاعر كرر نفسه ، أم حُشر من قبل غيره تألماً بمريضة العراق ، وشدة الاشتياق :
يقولون ليلى بالعراق مريضة ٌ *** فمالك لاتضني وانت صديقُ
سقى الله مرضى بالعراق فأنني**على كلِّ مرضى بالعراق شفيقُ
فأن تك ليلى بالعراق مريضة **** فأني في بحر الحتوف غريقُ
أهِيم بأقْطارِ البلادِ وعَرْضِهَا *** * ومالي إلى ليلى الغداة طريـقُ
كفى بقيس وليلى والعراق شهوداً ، وسنتتبع في النقطة الثانية 2 – الربط بين كلمتي العراق والوطن
كيما تـرى (أهل العراق) أنني *** أوطنت أرضا لم تكن من (وطني)
أول بلد في التاريخ العربي ينتزع لقب وطن هو العراق ،إذ ْكانت كلمة الوطن تطلق على السكن أو المنزل الذي يأمن به الإنسان العربي من فتك الحيونات المفترسة الناهشة ، والأعداء المتوحشة الكاسرة ، ويلجأ إليه من أهوال عواصف الرياح العاتية ، والأنواء الجوية القاسية ، يألف فيه الفرد والخلان و العائلة ، قال طرفة :
على موطن يخشى الفتى عنده الردى *** متى تعترك فيه الفرائص ترعدُ
وفي القرآن الكريم : ” لقد نصركم الله في مواطن كثيرة…” – التوبة 25 – ومواطن : جمع موطن ، والموطن أصله مكان التوطن ، أي الإقامة . ويطلق على مقام الحرب وموقفها ، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة (7) .
ويقال : واطنت فلانا على هذا الأمر إذا جعلا في أنفسهما أن يفعلاه ، وتوطين النفس على الشيء : كالتمهيد . ويقول ابن سيده : وطن نفسه على الشيء وله فتوطنت حملها عليه فتحملت وذلت له ، وقيل : وطن نفسه على الشيء وله فتوطنت حملها عليه ، قال كثير:
فقلت لها يا عز كل مصيبة *** إذا وطنت يوما لها النفس ذلت (8)
أول من وظـّف كلمة وطن وربطها مع السكان عربياً رؤبة بن العجاج التميمي من أعراب البصرة ، توفي فيها ( 145 هـ / 762 م) ، راجزاً مهوساً :
أوطنتُ وطـْناً لم يكنْ من وطني
لو لمْ تكـــــنْ عاملها لم أســكن ِ
بها ولم أرجن بها فـي الرجــن
كيما تـــــــرى (أهل العراق) أنني
أوطنت أرضا لم تكن من (وطني) (9)
الرجن الإقامة في المكان ، لا يهمنا من رؤبة التميمي البصري سوى الربط بين (أهل العراق) و(وطني) ، يا ترى من هم أهل العراق ؟ ولماذا خصهم بالذات دون غيرهم ؟! لولا الإحساس بالمواطنة والانتماء ، وإن كان العراق عراقيَن ، عراق العرب ويشمل جغرافياً سهل وادي الرافديَن ، ويمتد انخفاضاً حتى بلاد المصريَن الكوفة والبصرة ، ومعظمه العراق الحالي بعد أن قـُرضت منه أجزاء من قبل الترك والفرس !! ، وهو أصل التسمية ، وعراق العجم ، إذ أطلق في العصر الأموي ، لكي يتبع سلطة والي العراق ، إدارياً و أقتصادياً وعسكرياً ، ويقع شرق عراق العرب، أو ما يسمى قديماً بإقليم الجبال، إذ يمتد شرقاً إلى أصفهان والري وقزوين وكرمنشاه .. والفاصل بينهما سلسلة جبال زاجروس ، بل يذهب الحموي إلى أبعد من ذلك إداريا في العصر الأموي المذكور ، قائلاً : ” وقال المدائني عمل العراق من هيت إلى الصين والسند والهند والري وخراسان وسجستان وطبرستان إلى الديلم والجبال…”(10) ، ومن ثمّ بزغت دولة العباسيين ، فأخذت كلمة (العراقيَن) تختص بالبصرة والكوفة دون عجمها وعربها ، أو تطلق عليهما كلمة (المصريَن) .
الربط بين الأوطان والوجدان :
وذهب ابن الرومي البغدادي الأصيل بثقافته ونشأته وولادته وولائه – كما ذكرنا في مقالة سابقة ، ونكررهنا الأبيات لعمقها في الوجدان الإنساني – إلى الربط بين النفس وخوالجها ، والوطن وظليله ، وإن كان وطن الرومي سكناً ، إذ كان له جار اسمه ابن ابي كامل ، في رواية (زهر الاداب ) ، أغتصب بعض جدر داره , و أجبره على بيعها , ففزع ابن الرومي الى سليمان بن عبد الله بن طاهرشاكيا وذاكرا تلك الدار او ذلك الوطن ، اقرأ يا عزيزي الآهات والونـّات على الوطن الصغير ، فما بالك بالكبير ! :
ولي وطن آليــت الا أبيعـــــه*** وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة** كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكـا
وحبّبَ أوطان الرجــال اليـــهمُ ***مآرب قضاها الشبـــــاب هنالكا
اذا ذكروا أوطانهم ذكرتهــــم ***عهود الصـــبا فيها فحنوا لذالكا
فقد آلفته النفــــــس حتى كأنه*** لها جسد ان بان غــــودر هالكـا
أعتقد أنه لم يسبق لأحد أن أستعمل كلمة (وطن ) بهذا العشق الوجداني غيرالبغدادي عشقاً ، والرومي عسفاً ، و ان حدث ذلك ، كما هو حال (الرؤبة) ، فبكل تأكيد ، كان ابن الرومي أول من حلل تحليلا نفسيا رائعا لعلاقة الانسان بوطنه ، ويتدرج بهذا التدرج المنطقي المتسلسل من عهود الصبا الى شرخ الشباب حتى تألفه النفس، ويصبح كالجسد ، وبدونه يحل الهلاك.
.
البلد والبلدة:
وله أبيات جميلة أخرى في التعلق بالبلدان ، وما البلدان إلا الأوطان ، وإنْ اختلف المدلولان ، ومدى تمثلها بالضمير:
بلد صحبت به الطفولة والصبـا*** ولبستُ ثوب العمر وهو جديدُ
فاذا تمثل في الضمير رأيتــــــه*** وعليه أغصان الشباب تميــــدُ
كأنني به لهذا التشبث بوطنيته وصدق ايمانه بعروبته ، يتنصل من كنيته المفروضة عليه ، وكأنه يعلم ما يجرُّ النسب عليه مما ليس بيديه ، والوطن يكبر بحجم العقول وسعة إدراكها ، فبأي ثمن تباع القبلية والطائفية ، والإثنية ، والمناطقية ، والعنصرية ،إذا باع الإنسان وطنه وأهله وتاريخه بالمجان ، على يد غيره من الجان.
العراق عريق والوطن غريق .. إلامَ الخلفُ بينكمُ إلاما؟!!!
وندع أحمد شوقي يخاطبكم ، بما خاطب به أهل (مصره) ، في رائعة ( شهيد حقــّه ) ، كمال مصطفى في ذكرى وفاته السابعة :
إلام الخلفُ بينكم إلاما ؟ *** وهذي الضجة ُالكبرى علاما ؟
وفيمَ يكيد بعضكم لبعض ٍ****وتبدون العداوة والخصـاما
وأين ذهبتمُ بالحق لمّـــا **** ركبتمْ في قضيته الظـــلاما ؟
تراميتم فقال الناس : قومٌ*** ** إلى الخذلان أمرهمُ ترامى
إذا كان الرّماةُ رماة َ سوءٍ ****أحلـّوا خير مرماها السهاما
شتان بين مَن يضربون الدرهم والدينار ، والريال والدولار ، وبين مَن يُضربون بها
والبلد فرد البلدان ، وجنس المكان كالعراق و الشام ، والبلدة : الجزء المخصص منه كالبصرة و دمشق ، والبلد والبلدة : التراب . والبلد : ما لم يحفر من الأرض ولم يوقد فيه ، قال الراعي:
وموقد النار قد بادت حمامته *** ما إن تبيّنه في جدة البلد (11)
والراعي النُمَيري (ت 90 هـ / 708 م) ، هو عُبَيد بن حُصين النميري ، ونعت بالراعي لكثرة وصفه الأبل .
البحتري والمتنبي والمعري …والعراق :
ولا أطيل عليك ، ولو في الإطالة إفادة ، صار العراق محط أقوال عمالقة الشعر العربي ، فهذا أبو عبادة البحتري (ت 284 هـ / 897 م) ، معاصر ابن الرومي يقول في تفضيل بلاده الشام مناخاً ، وجوّاً:
نصب إلى طيب العراق وحسنها ******ويمنع منها قيظها وحرورها
هي الأرض نهواها إذا طاب فصلها**ونهرب منها حين يحمى هجيرها
عشيقتنا الأولى وخلتنا التي ****** تحب وأن أضحت دمشق تغيرهــا
وأختلف أهل ذلك الزمان ، ومن قبله و بعده ، من شعراء وأدباء ، في مناخ العراق وطيبه ، بل بالغوا في حسنه ولطفه ، ونقصر قولنا على ما قال ياقوتنا الحموي في (معجمه …) السابق:
” والعراق أعدل أرض الله هواء وأصحها مزاجا وماء فلذلك كان أهل العراق هم أهل العقول الصحيحة والآراء الراجحة والشهوات المحمودة والشمائل الظريفة والبراعة في كل صناعة مع اعتدال الأعضاء واستواء الأخلاط وسمرة الألوان … قالوا وليس بالعراق مشات كمشاتي الجبال ولا مصيف كمصيف عمان ولا صواعق كصواعق تهامة ولا دماميل كدماميل الجزيرة ولا جرب كجرب الزنج ولا طواعين كطواعين الشام ولا طحال كطحال البحرين ولا حمى كحمى خيبر ولا كزلازل سيراف ولا كحرارات الأهواز ولا كأفاعي سجستان وثعابين مصر وعقارب نصيبين ولا تلون هوائها تلون هواء مصر …” (12)
،
والحقيقة ، الحموي شهاب الدين أبو عبد الله ، الذي سمّى نفسه عبد الرحمن ، (574 هـ / 1178 م – 622 هـ / 1224 م ) قد بالغ في قوله , وذهب بعيدا في تطرفه , فحذفنا ما حذفنا من نيل وتمييز ، ولكن من المهم أن نذكر أنّ الرجل بالرغم من أنه عالم جليل ، وأديب قدير ، ومؤلف كبير , فهو رحّالة ، جاب الدنيا (13)، وتعمق في البلدان ، ودوّن ما صكّته الأذنان، وصافحته العينان ، والرجل إضافة لذلك كلـّه خدم لدى بعض تجار بغداد ، وفتح دكاناً صغيراً في كرخها المزدان , ومما ذكرناه يجب أنْ تتأمل العقول ، وتتفكر الأذهان ، في العديد من الحقائق ، مما ذكره هو في (معجم البلدان ) ! ، والمعري من قبله ، (ت 449 هـ / 1057 م ) ، لم يكن أقل تعلقاً بالعراق , ووصفه لبغداد ، اقرأ في حق بغداد ودجلتها :
فبئس البديل الشام منكم وأهله ***على أنهم قومي وبينهم ربعي
ألا زودوني شربة ولو أننـــي *** قدرتُ إذاً أفنيت دجلـــة بالكرع
إذاً أهل الشام هم أهله وقومه ، فبئس البديل هو المناخ والأجواء ، ربما العلاقات الاجتماعية الموسعة ، والصرح الثقافية العامرة منها , ولكن ليس الأخلاقيات قطعاً , بدليل – ولا حاجة لدليل – البيت الثاني ، والإيحاء بمرامه المحال بكرع ماء دجلة حتى الفناء ! المهم كفـّى ووفى , وأزيدك الظل الظليل للعراق الجميل : ِ
أسالت أتي الدمع فوق أسيل *** ومالت لظل بالعراق ظليل
ومن الناحية السياسية ساوى بين النطرين ، والسياسيين الشياطين:
إن العراق وإن الشام من زمن *** صفران ما بهما للملك سلطان
ساس الأنام شياطين مسلطة *** في كل مصر من الوالين شيطان
قالت العرب ما قالت ، وروت ما روت ، ونقلت ما نقلت ، ويبقى اسم العراق من أوائل أسماء البلدان العربية ، ولو أنّ معظمها أوائل ، وأول من أ ُطلِق عليه كلمة الوطن بما نفهمه ونتفهمه اليوم تقريباً دون أن يسبقه إليه العرب الآخرون ، وتسابق على الاعتزاز بذكره معظم عمالقة شعراء العرب القدماء , وآخرهم وليس بأخيرهم المتنبي العظيم ، إذ يتلهف للقائه ، ويناجي ناقته قائلاً:
وقلنا لها أين أرض العراق ** فقالت ونحن بتربان هــا
وهبت بحسمى هبوب الدبو*** ر مستقبلات مهب الصبا
وأخيراً أحمد شوقي …وإلمَ الخلف بينكم ؟
هذا أسم العراق عمقاً ، ومدلول توطنه سكناً ، والارتباط به شجناً ، منذ أقدم العصور، فكيف أنتم ممزقون ؟! وماذا تريدون ؟! وأين سترسون ؟ وندع أحمد شوقي يخاطبكم ، بما خاطب به أهل (مصره) ، في رائعة ( شهيد حقــّه ) ، كمال مصطفى في ذكرى وفاته السابعة:
إلام الخلفُ بينكم إلاما ؟ *** وهذي الضجة ُالكبرى علاما ؟
وفيمَ يكيد بعضكم لبعض ٍ**** وتبدون العداوة والخصـاما
وأين ذهبتمُ بالحق لمّـــا ***** ركبتمْ في قضيته الظـــلاما ؟
تراميتم فقال الناس : قومٌ*** * إلى الخذلان أمرهمُ ترامى
إذا كان الرّماةُ رماة َ سوءٍ ****أحلـّوا خير مرماها السهاما (14)
شتان بين مَن يضربون الدرهم والدينار ، والريال والدولار ، وبين مَن يُضربون بها ، فالتسقيط جاهز ، والجهل سائد , ولكن العراق لا يعدم رجاله ، وتبقى الأمور في ذمّة الله والتاريخ والأجيال ، وكلُّ ما فوق الترابِ ترابُ :
إذا كانت النفوسُ كباراً *** تعبتْ قي مرادها الأجسامُ
ولله الأمرُ مِن قبلُ ومِن بعدُ . فهو نعم المولى ، ونعم النصير!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نظراً للظروف المأساوية الطارئة – إن شاء الله – التي يمرّ بها عراقنا الحبيب ، وهو على حافة الخطر ، نقدم بحوثنا عن عراقة عراقنا لدواعي وطنية وإنسانية ، لعلهم يتذكرون ، والتاريخ لن يرحم أحداً ، ونؤجل بحوثنا عن العبقرية والرثاء والغزل ، وفصيدتي الجديدة، للأسابيع القادمة ، والله من وراء القصد .
(1) (لسان العرب) : أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (ابن منظور) ج10 ص 115 – 120- دار صادر – 2003 بيروت .
. معجم البلدان) : ياقوت الحموي – 3 / 207 – الوراق – الموسوعة الشاملة )(2)
راجع : (الشعر والشعراء) ت احمد محمد شاكر ، ص 399 ، دار المعارف – 1966م – مصر.
((3) (الاصمعيات) : أبو سعيد عبد الملك بن قريب ت 216 ، تحقيق : احمد محمد شاكر وعبد السلام هرون ، الطبعة الثالثة ص164 ، دار المعار ، مصر. .
(4) العماليق : من أول الشعوب السامية القديمة التي هاجرت من الجزيرة العربية باتجاه العراق وسوريا وذلك حوالي 2500 ق.م.، منهم قبائل االأموريين في سواد العراق , والكنعانيين في بلاد الشام , أسسوا بعض الممالك فيهما , يرجع نسبهم إلى عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح ، ويقال : إنهم كانوا أقوياء ، عظماء القامة.
(5) (كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال) : علي بن حسام الدين المتقي الهندي 12 / 170 – رقم الحديث – 34128 – مؤسسة الرسالة – 1989 م – بيروت . .
(6) (جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة ) : أحمد زكي صفوت- ثلاثة أجزاء – 1 / 422 ، 2 /293 … – المكتبة العلمية – بيروت .
((7) (التحرير والتنوير) : محمد الطاهر ابن عاشور – ج 11 – ص 155 – سورة التوبة – الآية 25 – دار سحنون .
(8) (لسان العرب ) : ابن منظور – ج 15 – ص 239 – م . س.
(9) م . ن.
. (10) (معجم البلدان) : م . س
(11) (تاج العروس من جواهر القاموس ) : الزبيدي , الحسيني محمد بن محمد , 1 / 1902 – – الوراق – الموسوعة الشاملة.
(12) راجع لترجمته (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ) : شمس الدين أحمد ابن خلكان ، تح : محمد محي الدين – ج 5 ص 173 – 1449م – مطبعة النضة – مصر.
(13) أعيان الزمان وجيران النعمان في مقبرة الخيزران ) : وليد الأعظمي – مكتبة الرقيم – بغداد 2001م – صفحة 73 – 74 – , واسمه عنده : مهذب الدين. .
(14) (الشوقيات) : أحمد شوقي – تح علي العسيلي – ج1 ص 185 – مؤسسة الأعلمي – ط1 – 1998م بيروت.