“هذا العالم مريع.. رهيب وكريه” جملة اشتهرت كالنار في هشيم الانسانية، قدحها، اطلاقا من بين حجرين بدائيين في مجاهل افريقيا، المستكشف الانكليزي الطبيب ديفيد ليفينغسون.. داعية الغاء الرق، في العام 1871 ضمن مذكراته التي حجبت الدوائر السياسية اجزاءً مهمة منها، تم الافراج عنها نهاية 2011 وسيعاد طبعها مع الاجزاء المحجوبة خلال هذا العام2012.
لماذا حجبت اجزاء من مذكرات ليفينغستون، في حينها، ولماذا تطلق الآن؟
مكتبة جامعة لندن تحتفظ بالمخطوطات الاصلية بخط المستكشف ذاته منذ توفي في 1873 لحد الان، وسمحت بالاطلاع عليها ونشر الاجزاء التي لا تضر باستثماراتها التجارية وعلاقاتها السياسية مع الدول المستفيدة من صيد الرقيق وابرزها امريكا…
يسترسل السيناريو المفبرك الآن على ان استاذا في الجامعة تنبه لها واجرى معالجات مختبرية للكتابة المدونة بحبر استحدثه ليفينغستون من نباتات محلية بعد نفاد كميات الحبر والورق لديه في الغابات اللانهائية غاذا السير حثيثا الى عمق الماساة الافريقية مع الرق، غائرا في تفاصيل غير مسموح في حينها الاطلاع عليها.
وتلك هي الاجابة!
شاهد الداعية تفاصيل ميدانية من طرق العصابات البريطانية والامريكية في جمع الرقيق من افريقا ينقلونهم عبيدا الى العالم المتحضر، بطرق فظيعة، ايسرها قتل اربعمائة افريقي في مجموعة قرى متلاصقة بغية اجبار الاحياء المتبقين على الاستسلام من دون مقاومة تتعب رجال العصابات، اما نقلهم الى اسواق الرقيق العالمية المعروفة آنذاك، فيجري بطرق بشعة اسهلها حشرهم مع الفحم في مخازن السفن مقيدين من دون طعام ولا شراب حتى نهاية الرحلة ومن يموت يظل بين اقرانه يتعفن، اذا تنبه الملاحون له القوه في البحر تخففا وتحاشيا لاحتمال تحوله الى طاعون يقتل من حوله.
حجبت هذه التفاصيل ونشر منها ما يفيد بان “النبي يوسف شاب تاه من ذويه ثم عثروا عليه ثانية” اما لماذا يسمح للاستاذ الجامعي بالعثور عليها في مصادفة مرسومة كي تنشر الان بعد اجراءات مختبرية معقدة تضفي العذر على الحجب، فهو امر لم يكن عصيا في حينها، كي لا يظن احد ان فك درجة وضوح الحبر المكتوب على ورق جريدة شكلت عائقا في حينها وان التطور العلمي سمح الان بفكها فهذا ليس هو السبب.
الاجابة تكمن في مقطع من قصيدة للشاعر الفلسطيني ابراهيم نصر الله:
“ان لم تكن مؤامرة
فاي صدفة مدبرة
في ان تكون للمخيم الذي يطل..
حديقة جميلة وتنتهي بمقبرة”.
لاطلاق الاجزاء المحجوبة من مذكرات داعية الكف عن الرقيق ليفينغسون، توقيت يدل على ان المنهج الاسترقاقي للعالم المتفوق على العالم المتخلف، مراحلة متلاحقة منذ فجر التاريخ الى الان لم تنقطع لكنها تتنوع تكيفا مع الذوق العالمي العام، ولا اقول الرأي العالمي العام؛ اذ لا رأي للمتخلف ازاء المتقدم ولا كيان لانسان همجي نظير انسان متحضر.. امريكا – وبريطانيا ضمنا – لاتعنى بآراء الشعوب، انما تسحق كل ما يقف في طريق ستراتيجياتها، وحتى فيتنام انسحبت منها بضغط الرأي الامريكي الداخلي بعد ان قادت جيفارا الى اقرب شجرة في غابات فيتنام واعدمه جندي بسيط رميا باللامبالاة، والعراق خرجت منه بارادتها وليس استجابة لبضع مرهقين يتجمهرون في استعراض مسلح يهزم امام جندي امريكي واحد، وفق شهود عيان مسؤولون عما شاهدوا للتاريخ..
والعالم كله الان متخلف عما تفكر فيه امريكا و… كما اسلفنا – بريطانيا ضمنا.
نشر المذكرات الكاملة متخلفة عن النشر الجزئي بحوالى مائة واربعين عاما يؤكد مرحلة جديدة من الرق الامريكي للعالم، انتفت الطريقة الكونيالية التقليدية ذات الجيوش الجرارة التي كان آخر استخدام لها في تحرير الكويت من غزو صدام حسين في العام 1991 وتحرير العراق منه في 2003، وآن تاكيد ما بدات التهيئة له منذ السبعينيات وقد نضج الان، الا وهو الاستعباد المثالي للعالم.. امريكا الان تقدم الانموذج الامثل لحياة الفرد.. تقدم الحياة الكاملة التي استنفدت حتى دور الله في الهداية، على حد قول عالم فيزياء امريكي فائق العقلية بما شل بدنه كاملا، اذ قال: اكتفينا اخلاقيا من الله آن لنا تنحيته وتحييده عن العمل كي لا يظل حاضرا يعيق المستقبل بارشادات لم نعد نحتاج تذكرها لانها اصبحت بديهة في الغرب.. كالتنفس والنوم والمشي.. فالمجتمع الغربي الان في غاية الانضباط الاجتماعي واللياقة السلوكية والاستقامة الاخلاقية.. شكرا لله.. استنفد مهمته وليغادر.
هذا هو الرقيق الامريكي الجديد، وعلينا ان نكون موضوعيين ولا نكابر.. انه رقيق رائع تتمنى شعوب العالم قاطبة ان تسترقها امريكا بعبودية من نوع يغنيها عن رب يشرعن الانفال في قرآنه فيقوم صدام حسين بسحق الاكراد استنادا الى السورة المباركة، في واقعة شنيعة يدمى لها ضمير امريكا التي تواطأت معه على الجريمة خلال الثمانينيات لانها كانت تحتاج حربه ضد ايران حماية لاسرائيل، ثم عاقبته في 2003 على الانفال وضرب حلبجة بالكيمياوي واستباحته الجنوب وهي جرائم ارتكبها في الثمانينيات والتسعينيات بمساعدة او تواطئ امريكي.
توقيتات النشر الجزئي والكلي للمذكرات لعبة عميقة الابعاد، تدل على دهاء غربي نحترمه متمنين ان يشملنا بعطفه.. اقولها صادقا وبحرص وطني على العراق الذي ارتكب حماقة بمقاومته الوجود الامريكي وكان عليه ان يستفيد من المنظومة العلمية التي ستأتي بها امريكا لتنتشلنا من تخلفنا، لكننا تمسكنا بالتخلف وقاومنا امريكا!!!
وهذا جراء فهمنا القاصر الذي ظن امريكا جنودا مدججين بالسلاح كما رأيناهم اثناء دخول قوات الأئتلاف وهروب صدام، لم نع ان امريكا منظومة حضارية عظمى وفرت دعما ماليا طيلة سنوات للعراق بالزام دول العالم بتقديم منح له ريثما تستقر موازناته الاقتصادية التي تناهشها الفساد الاداري عندما سلمت للعراقيين.
طاح حظ هكذا شعب يحاول القبض على شعارات لا وجود فيزيائي لها مفرطا برفاه كان سيجعلنا دولة عظمى تحت جناح امريكا مثل المانيا واليابان والسويد.. دول الفائض الاقتصادي والرفاه الفائق من خلال ثروات لا تصل الى 1% من ثرواتنا لكن امريكا نظمتهم فانتظموا في رهط حضاري رفيع السياقات انتشلهم من حروب هوجاء الى رفاه تأملي.
دول ليس فيها حمقى يتكئون الى احدث اجهزة التكييف وياكلون ما لذ وطاب وعندما تتعب مفاصلهم من بلادة الاسترخاء ينهضون بالصيحة:- كرامة الوطن وسيادته.
بينما الكرامة والسيادة تهدر مع كل متسولة تفترش ارصفة الكراجات.
حولت الدول العظمى استرقاق الافارقة من الطرق البدائية.. التي تصطاد افرادا تقيدهم بالاصفاد وتبيعهم في الاسواق المتخصصة، الى استرقاق الشعوب بشفافية محببة بعد ان انفتحت اسوار اسواق العبيد وصار العالم كله مستعبدا للغرائز بجمالها الذي لا يصح التقاطع معه لانه من نعم الله واجبة التقديس.
تستعبد العالم طوع المكتشفات الحديثة التي ترهن حريته بالرفاه الذي تحققه له، فماذا يكره الانسان من ان تستعبده سعادته ويظل رهين الحياة الكريمة؟
افهموا!
استنفد خطاب الله.. جل وعلا.. في القرآن الكريم، للاعراب، حيزا كبيرا من ترديد مفردات متسائلة بغيظ (لعلكم تعقلون) و(لعلكم تفهمون) ومن مثل هذا النداء الذي يعادل فيه الله سبحانه وتعالى حجم عناء الرسول محمد (ص) في مخاطبة الاعراب الذين لا يريدون ان يعقلوا ولا يفهموا.
بقي علينا ان نعرف من خلال اطلاق مذكرات ليفينغسون التي كتبها في مجاهل افريقيا وهو يرصد عن بعد عصابات الرقيق تقتل اربعمائة افريقي كي يستسلم الاخرون من دون مقاومة في العام 1871 الان في 2011 / 2012 ان العالم مازال حطاما ونار الاغبياء تستعر في هشيم الشعوب التي لا تريد الاستفاقة من سلفيتها الكلامية التي لا مقابل عملي لها.
قولي هذا لا ادعوا فيه لمقاطعة الاديان انما الاتعاظ من قسوة النتائج المترتية على المبالغة بالتعصب الديني، فالدين كان بداية يتوجب الان تحييدها بحصره في الجوامع والكنائس ومنعه بالقوة من التمظهر في الشارع او الدستور، عائدا بسياقات الدولة الى الدين وليس الى الدنيا.
الدين كان بداية الوعي، استنفد ما عنده وبات بقاؤه عائقا تتلكأ امامه مسائر الحضارة؛ فاستبعدوه وليبق تراثا طيبا يحقق لنا راحة نفسية في اوقات الفراغ بالصلاة في جامع وندب الاسلاف في حسينية، نخرج منهما الى الواقع العملي في قرية كونية تكاملت وظل الفساد الاداري في وزارة الكهرباء العراقية يعزل خريطة العراق عن الانتظام في القرية الكونية.
فذاك العالم، كما قال الطبيب والمستكشف ديفيد ليفينغسون.. داعية الكف عن الرقيق: “مريع.. رهيب وكريه” فلا تجعلوا هذا العالم مريعا.. رهيبا وكريها! يا أولوا الالباب.