18 ديسمبر، 2024 10:44 م

هذا البيت وهذه القصيدة!

هذا البيت وهذه القصيدة!

كنت قد نشرت قبل يومين بيتأ من الشعر من أحدى قصائد المتنبي، استحوذ على اهتمام كثير من الأصدقاء إعجابا وتعليقاً ولا فضل لي طبعاً إلا بما يعرف بالبلاغة بحسن الاستشهاد وهو اختيار شاهد من قول مـأثور أومثل سائر أوبيت من الشعر أوىية من التنزيل بحيث يأتي مطابقاً لمقتضى الحال ولهذا حاز البيت على التعليقات، ناهيك عن عدد كبير من المعجبين والمعجبات، وتكمن أهميته في حكمته ومعناه حتى لكأن أبا المحسَّد قاله اليوم، فهو يشير الى عبقرية الشاعر المتنبي التي وصف نفسه وأجاد حين قال:
وما الدهرُ إلا مِن رُواةِ قصائدي – إذا قلت شعراً أصبح الدهر مُنشِدا
ومن معالم خلود شعره أن شرَحه كبار اللغويين والشعراء مازاد على أربعة عشر شارحاً من عيار ابن سيدة وابن بسام وابن جني والعكبري …أما شيخ المعرة فأطلق على شرحه “شرح ديوان أحمد”؛ ولا شك إن السبب في خلود شعره يرجع الى الحكمة والدروس الإنسانية التي استخلصها من تجربته وثقافته وموهبته، فالحكمة هي تجربة مجردة من الزمكان لذا هي تصلح لكل العصور.. لأجل هذا قال أبو تمام قولة ذات معنى عميق: أنا والمتنبي حكيمان والشاعر هو البحتري!
ولعل السبب نفسه الذي ارتقى بشكسبير ليحتل مكانة عالمية فهو الى جانب ما كتب من مسرحيات وسوننيت شعري بجماليه عالية تضافرت مع الحكمة ليحتل المكانة المرموق على مر الدهور!
***
أما البيت فهو:
وإنما الناسُ بالمُلوكِ وما – تُفلحُ عُرْبٌ مُلوكُها عَجَمُ
والمعنى واضح وسلس ومتين اللغة كجل شعر المتنبي، وهو يرمي الى مُدرك شعري في اللب منه حكمة بليغة: وهو أن أية أمة لا تفلح إذا احتلها أجنبي وحكمها، لسبب هو أن الأجنبي المحتل يبحث عن مصلحته أولا ويجعل الأمة ضعيفة متفرقة حتى يضمن ديمومة بقائه على رأسها..وكم صدقت العرب حين قالت: “إنما تأكلُ الذئابُ من الغَنَم القاصية “، ومن تجارب تاريخنا الكثير الكثير حيث كان المحتلون – ومازالوا- يتحكمون بالبلد تحكما استعمارياً.. هذا هو المُدرَك الشعري العام.
أما المعنى الراهن فهو ينطبق على حالنا، فالعجم هنا بالمعنى العام هم الأعاجم أي غير العرب حتى وإن تكلموا اللغة العربية التي غالباً ما يتكلمونها بلُكنة أعجمية أي هم الأتراك والأمريكان أيضا الذين يحتلون العراق وسوريا، أما المعنى الخاص فهم المنحدرون من بلد العجم وهم إسم إيران أو بلاد الفرس..وحتى في اللهجة العراقية والمصرية والخليجية التسمية مخصصة بسكان إيران الذين لاتكون العربية لغتهم الأصلية كسكان الأهواز.
ولا يفهمن القارىء أنني أسيء للجارة إيران وشعبها فقد كانت التفاعل بيننا وبين العجم أهم حضارة إنسانية مُشرفة.. وإن لغة الفرس تشمل المفردات العربية قرابة 70% من اللغة الفارسية.. بل إن مسح الحامض النووي أثبت أن قرابة الستين بالمائة من شعةب إيران من أصول عربية..! فهم أكثر من نسبة الأصل العربي في مصر!! لكن الاعتبارات السياسية تتعدى الاعتبارات الجينية في أهميتها..
البيت من قصيدة المتنبي ومطلعها (المنسرح):
أحقً عافٍ بدمعِكَ الهِمَمُ – أحدثُ شيءٍ عهداُ بها الهِمَمُ
والمعنى مختصراً بحق بالمرء أن يتفحص هَمّه الحالي وهِممه ويبكيه لا أن يبكي أطلالاً ودِمناً درست! ويرى المتمعن أن البيت مكتنز متين السبك صاغ مدركاً عاماً بجد على عادة مستحكمة عند العرب وهو “الوقوف على الأطلال” مذكراً بقصيدة ساخرة متهكمة لأبي نواس تؤدي المعنى ذاته باسوب ساخر سلس (الرمل):
قل لمن ظلَّ على رسمٍ درَسْ – واقفاً ما ضَرّ لو كان جَلَسْ
وجه السخرية: لمَ الوقوف على الأطلال بل إجلس لأن الوقوف سيطول وعندما تجلس خذ راحتك، إبك ما شئت من البكاء، بل شق الجيوب والطم الخدود.. هذا هو التأويل بين الجاد والساخر!
وقصيدة المتنبي طويلة قوامها خمسة وأربعون بيتا، قالها يمدح علي بن إبراهيم التنوخي، ويذم فيها الأعاجم خاصة في معارك سيف الدولة المكلل بالنصر معهم وهو لا ينسى نصيبه من الفخر وتعظيم الذات وذم الحُسّاد.. ويكون البيت محور الموضوع ثانيها، ودونكم بعض القصيدة وأخص النضد الذي يؤكد زعمي:
لا أدبٌ عندهم ولا حَسَبٌ – ولا عهودٌ ولا ذممُ
بكلِ ارضٍ وطِئتُها أُممٌ – ترعى بعبدِ كأنها غنمُ
يستخشنً الخزَّ حين يلمُسهُ – وكان يُبرى بظفره القلَمُ
إني وإن لُمْتُ حاسديَّ فما – أنكِرُ أني عقوبةٌ لهمُ
وكيف لا يُحسَدُ امرءٌ علَمٌ – له على كلّ هامةٌ قدَمُ

ومن الواضح لمن يتمعن في الأبيات يجد فيها أجواء هجاء كافور الأخشيدي في قصيدة المتنبي (البسيط):

عيد بأية حال عُدت يا عيدُ – بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ

وكما هو معروف، فيها أبيات مقذعة أعفّ من ذكرها، من شاء منكم فليراجع موقع واحة المتنبي ففيه القصائد كاملة ومشكّلة مع الشروح الوافيه لأهم الشُرّاح..

في الخامس من شباط فبراير 2020

بِكُلِّ أَرضٍ وَطِئتُها أُمَمٌ

تُرعى لِعَبدٍ كَأَنَّها غَنَمُ

[الشروح : 5 ] 5

يَستَخشِنُ الخَزَّ حينَ يَلمُسُهُ

وَكانَ يُبرى بِظُفرِهِ القَلَمُ

[الشروح : 9 ] 6

إِنّي وَإِن لُمتُ حاسِدِيَّ فَما

أُنكِرُ أَنّي عُقوبَةٌ لَهُمُ

[الشروح : 9 ] 7

وَكَيفَ لا يُحسَدُ اِمرُؤٌ عَلَمٌ

لَهُ عَلى كُلِّ هامَةٍ قَدَمُ

[الشروح : 6 ] 8

يَهابُهُ أَبسأُ الرِجالِ بِهِ

وَتَتَّقي حَدَّ سَيفِهِ البُهَمُ

[الشروح : 9 ] 9

كَفانِيَ الذَمَّ أَنَّني رَجُلٌ

أَكرَمُ مالٍ مَلَكتُهُ الكَرَمُ

[الشروح : 10 ] 10

يَجني الغِنى لِلِّئامِ لَو عَقَلوا

ما لَيسَ يَجني عَلَيهِمِ العَدَمُ

[الشروح : 7 ] 11

هُمُ لِأَموالِهِم وَلَسنَ لَهُم

وَالعارُ يَبقى وَالجُرحُ يَلتَإِمُ