7 أبريل، 2024 2:16 ص
Search
Close this search box.

هارت كرين، شاعر أمريكا العظيم

Facebook
Twitter
LinkedIn

في السابع والعشرين من نيسان، 1932، يقفز الشاعر هارت كرين من الباخرة أوريزابا إلى البحر الكاريبي. ينظر الركاب إلى الغريق وهو يناضل طلباً للنجاة، لكن القرش كان له بالمرصاد، فضاع أكبر شاعر في دنيا الأدب الأمريكي منذ والت ويتمان، ولم يتجاوز الثالثة والثلاثين من عمره. جاء هارت من ريف أوهايو إلى نيويورك، مدينة الحديد والإسمنت، وفي وجدانه اسمان كبيران، آرثر رامبو، وجون كيتس، منهما أخذ براءة الشعراء، فصنع أعظم ملحمة في الشعر الحديث، إنها قصيدة “الجسر”، ملحمة أمريكا المعاصرة، والتي سطر فيها وعود الحرية والعطاء لأبناء جيله في بداية عصر الجاز، كما سجل فيها خيبة أمريكا الحديثة، والتي لن تقدم شيئاً غير عبودية المال. رأى هارت نيويورك  حينما كان في السابعة عشرة، فعشقها. أحب ناسها وأعراقهم، ناطحاتها الإسمنتية وبيوت الصفيح .. بغاياها، وشرطتها، وبؤساءها الخالدين. عاش في المدينة في غرفة بجوار جسر بروكلين الشهير، وكان يقطعه في النهار والليل مشياً على الأقدام، وحده أو مع الصحاب من الشعراء والفنانين الشباب، أو حتى مع عشاقه الحديثين وأيديهم مشبوكة. لم يذهب هارت إلى كلية أو مدرسة، ولم تطأ قدماه شركة أو تجارة. عاش معدماً، بعيداً عن الأب والأم، فكان يعزي النفس بالصحاب من كل نوع وجنس. مثرون، ونجوم سينما، وبحارة، وسواق تاكسي، ومطلقات خائبات.. هي نيويورك، بغي النساء، والرجال أيضاً. كان يحب أن يجلب البهجة على قلوب الأصدقاء. يرتدي عباءة الفلاحين المكسيكية، أو يقف فجأة وسط الشارع حين يخلو من العابرين غير السكارى، ويرقص أمامهم رقصة القوزاق حتى يسقط على ركبتيه من الألم. حالما يعود إلى غرفته في بروكلين في آخر الليل، تحاصره العزلة، ويشرب من كاس الوحدة المر. ولكي يفهم المستقبل، يعود إلى صورته القديمة، إلى هذا الصرح القريب المصنوع من ضفائر الفولاذ، الذي بني عام  1883. إنه جسر بروكلين الشهير، عنوان أمريكا الحديدية الحديثة، وما يتهددها من خطر، حتى جاء الحادي عشر من أيلول، فذاب الحديد، وتهاوت الصروح، وبقيت ملحمة الشعراء خالدة في قصيدة هارت كرين.
والجسر في القصيدة هو الرمز الذي اختاره الشاعر ليمثل تلك الإرادة الحرة في خلق عالم جديد في قلب التاريخ الأمريكي، فقد أحس الشاعر بقوة ذلك الرمز في لحظة تأمله في هذا المخلوق الساهر على النهر، صلاة المنبوذين، وصرخة العشاق الساهرين في ليل نيويورك. هو الجامع لحجارة أمريكا المفتتة، تاريخها مع ثقافتها الحديثة المرتكزة على آلام الزنوج المستعبدين. العلم بالفن، الأبيض المحتل بالزنجي الأحمر، عالم المال والشعر، كولومبس وأتلانتس، الأبرياء الأخيار، والشواذ من كل لون وجنس.. إنها أغنية واحدة، ذائبة في جسر واحد من الحديد المحمي. وجد الشاعر كل آماله في قصيدة الجسر، كما وجد فيه كل تناقضات أمريكا الحديثة، لكنه أكتشف خطاً جديداً في التوليف الخلاق بين الآلة والشعر، فسبق عصره وكل عصور التاريخ الأمريكي. نادراً ما أشار هارت كرين في شعره إلى حياته المعذبة، ذلك لأنه آمن منذ البداية بقانون الحداثة القائل بأن القصيدة لا تمثل كاتبها، بل هي هروب منه. من هنا فقد نظر النقاد إلى القصيدة حين ظهرت عام 1933 على أنها أكبر فشل في تاريخ الشعر الأمريكي الحديث، كذلك قالوا عن أسطورة والت ويتمان، أوراق العشب، لكن الشعر ينتصر دائماً على جلاديه. لدينا في الجسر الرحلة التي تأخذنا في ثلاثة عشر مقطعاً إلى كل الحياة الأمريكية.، جواً وبحراً، في القطار وعلى اليابسة .سيراً على الأقدام أو على ظهور الخيل. تبدأ القصيدة وتنتهي في ميناء نيويورك. الامتداد الروحي هو رمز القصيدة، وبؤرة ارتكازها. فكما يمتد الجسر على نهر الشرق ويحتويه بحب، تمتد قصيدة الجسر طولاً وعرضاً في التاريخ. إنها علاقة وطيدة بين الماضي والحاضر، بين الأفعال والرغبات.
لا يوجد حتى الآن غير كتابين فقيرين عن الشاعر هارت كرين رغم مرور ثمانين سنة على اختفائه، ومعنى هذا إن القرن الواحد والعشرين هو زمن هارت كرين القادم الذي أحيى من قبل تاريخ أمريكا، وعليها الآن أن تحييه، ويستحق منها ذلك.
كل عامٍ، والعراقُ بخير
John T. Irwin, Hart Crane’s Poetry. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 2010

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب