إنها التسمية التي أحب الباشا الشهيد نوري السعيد أن يَتسمّى بها ويُسَمّيه بها الآخرون عندما كان طالباً يَدرُس في الكلية العسكرية بالأستانة،وهي إن كانت تدل على شيء فعلى أصالة منبته وعَراقة أصله وتشبّعه بحُب بغداد وأهلها، وعِشقه لها ولترابها ومائها، والتي كان على الدوام وفياً لها ولأهلها وللعراق وأهله بفقرائهم وأغنيائهم، مِن كبيرهم الى صغيرهم. فقلبه الكبير وسع كل العراق كما وسِعَت أرض العراق فيما بعد أشلاء جَسَدِه المتناثرة التي مَزّقتها أيادي الرعاع.
إن قصة الباشا مع بغداد قصة عِشق وهيام وغرام فريد من نوعه، فبغدادية الباشا كما عراقيته كانت بالنسبة إليه خطاً أحمر لايمكن الأقتراب منه وتجاوزه، ولاغرابة في هذه البغدادية الأصيلة، فقد ولد في بغداد مِن عائلة بغدادية أصيلة، ونشأ وترعرع في حي أصيل مِن أحياء بغداد القديمة، وعاشَ مع أهلها وعائلاتها العريقة وتطبّع بطباعهم، وتشرّب عاداتها وتقاليدها الأصيلة التي يكرهها ويحقد عليها الغرباء والدخلاء. لذا نراهم اليوم يطعنون بالإنتماء العرقي لهذه العوائل، ويصفونها تارة بالتركية، وأخرى بالفارسية، وثالثة بالإنكشارية، وحتى كونها عَربية لم يَعد يُرضيهم وبات سُبة عليها، فهم يُريدونها عراقية خالصة، وياليتهم كانوا كذلك فكثير منهم لملوم لا يَعرف منبته، بعضهم يتحدث وكأنه حفيد سركون الأكدي أو حمورابي أو نبوخذ نصر، ووصل الجنون ببَعضهم للإدعاء بذلك فعلاً لا لشيء سوى أنه ينحدر من مناطق سَكنها هؤلاء قبل آلاف السنين، رغم علمنا جميعاً أن هذه الشعوب قد إندثرت وإنقرضت وليس لها إمتداد بشري وأحفاد كما يدعون، وماتبقى منها هو آثار عظيمة خالدة تحكي قصّة هذه الأرض المنكوبة. ولسخرية الأقدار تأتي بعض هذه الإدعائات اليوم مِمّن يَدّعون تبنّيهم لأفكار يسارية، فسُبحان مُغير الأفكار مِن أممية لمَناطقية. أما الأدهى فهو أن تأتي مِن بَعض أتباع الإسلام السياسي الذين يعلم الجميع أنهم لايعترفون بالعراق، بل ويَبغضون حضاراته القديمة ويحاولون مَسخها ومَحوها مِن ذاكرة العراقيين لإحلال فتن نائمة وقصَص عابرة بدلاً منها في مَسعاهم الخبيث لتشويه البُنية الجغرافية والإجتماعية للعراق وشعبه.
لقد عُرف عن الباشا تعلقه بكل ماهو بغدادي وعراقي أصيل. فقد أحب الاكلات البغدادية حُبّاً جَمّاً كالدولمة والشيخ محشي والتشريب والباجة والتمن والباميا، وكان يطلب أحياناً أن تنقل أليه حيثما يكون. كان يعرف ما تمتاز به بيوت أصدقائه وخصومه مِن أكلات بغدادية، لذا كان لا يتردد أحياناً عن أخبارهم بقدومه لتناول الغداء عندهم. كما كان يُحِب تناول الخبز العراقي حاراً مِن تنور أحد جيرانه البُسطاء دون مَحاذير أمنية. أحياناً كان يُحِب تناول الطعام على الطريقة البغدادية مُرتدياً دشداشة وبيَده دون مَلاعق وشوكات. لم يكن لديه مِن المشروبات الاجنبية مايُنافس العَرَق المِستكي. أحب الموسيقى والاغاني العراقية، وإعتاد سَماعَها عِبر الراديو مِن إذاعة العراق التي كانت تنقل حفلات نجوم الغناء العراقي كزهور حسين وعفيفة اسكندر وسليمة باشا والقبانجي وناظم الغزالي. أما بَيت الباشا فقد كان كأي بيت بغدادي بسيط بعيد عَن الزخرف والأبهة، وإذا عاد الى البيت كان يلبس الدشداشة أو البيجاما والنعال ويشغل نفسه بالأمور البيتية كتصليح الراديو أو رَش الحديقة أو مداعبة أحفاده أو رعاية الحيوانات التي كان يقتنيها مِن طيور وقطط وكلاب وقردة (نفذت فيها جميعاً أحكام الأعدام يوم 14 تموز لميولها الأستعمارية ربما!). عُرف عن الباشا أيضاً حُبّه للمفاجئات، فقد كان يذهب أيام الصيف لمَكتبه مُرتدياً بنطلوناً قصيراً وقميصاً، وقد يدخل فجأة الى مَجالس خصومه مِن الساسة قيضفي عليها روحاً مَرحة بنكاته الساخِرة وتعليقاته المبطنة، كما عُرف عَنه لفظه لكلمة عراق بضَم العَين(عُراق)، وحين سُأل عن السَبَب في لفظِه لها بهذه الطريقة أجاب “لأني لا أريد أن أكسِر عَين العراق”. هكذا كان الباشا، وهكذا كانت روحه الطَيّبة. لذا لكل صفاته هذه وأكثر مما لامَجال لذكره هنا أحب العراقيون الطيبون الباشا رغم إختلاف الكثيرين مِنهُم مَعه، ولعل هذا هو السِر في أن أحداً لم يُفكر يوماً بإغتياله رَغم قيامه بأمور كانت تُخالف أحياناً رأي عَوام الشعب،ورَغم تحريض خصومه وقلة الحراسة عليه. فمامِن سياسي عراقي حَظيَ بحُب البغداديين وأثارت مزاياه وخِصاله أعجابهم مثل ما حَظيَ به الباشا، سواء أثناء حياته أو بعد مماته، والسِر هو بَغداديته الصَميمية التي كانت تكوّن مُقومات شخصيته وتحكم طبائعه وسَجاياه، والتي كان البغادلة ولايزالون يعتزون بها ويفتخرون بمن يبرز بها الى الصَدارة وواجهة الأحداث. يقول السيد طالب مشتاق في كتابه أوراق أيامي عن الباشا: ” كان الباشا بغدادياً بكل ما في الكلمة مِن مَعنى ودلالة. كان بغدادياً في أخلاقه وشمائله، وبغدادياً في طعامه وشرابه، وبغدادياً في وفائه لأصدقائه وفي عِشرَته ونُكتِه، وبغدادياً في ذوقه الموسيقي وولعه بالمقام العراقي”.
للأسف قضى الباشا شهيداً بأيادي آثمة غادِرة سَبَق وأن حَلفت له يَمين الولاء ولطالما أدّت له التحيّة بل وأكلت مِن صَحنه وترَبّت مِن خيره. كانت نهايته مأساوية، لايستحقها رجل أفنى حياته في خدمة وطنه وشعبه الذي كان عليه أن يقيم له تشييعاً مهيباً، فإذا برُعاعه تقوم بقتله وسَحل وتقطيع جثته وحَرقِها، في تكرار لفِعل هَمَجي وحشي لم يُفرّق يوماً بين حفيد نبي أو باشا أو رجل فقير أمتاز به تأريخ العراق مِن دون أغلب دول العالم. وفي الوقت الذي أصبح فيه نكرات وشلاتية حُكاماً للعراق ويتحدثون بأسمه، نشأ أحفاد الباشا الشهيد وماتوا أغراباً عَن وطن كان جَدّهُم من مؤسِّسيه الأوائل. وفي الوقت الذي تنعّم ويتنعّم فيه شذاذ آفاق وحُفاة توالوا على حُكم العراق منذ تموز1958 وحتى الآن سُحتاً بأموال العراق وخيراته وحولوها الى حِسابات سِرّية وأبراج فندقية، رَحل الباشا أبيض الثوب صافي الذِمّة دون أن يترك لزوجته وزوجة ابنه الذي قضى في الأنقلاب الأسود ما يكفيهما لأعالة أحفاده، ما أضطر زوجة أبنه للعمل مُترجمة في الأذاعة البريطانية لتعيل أبنائها وأم زوجها. وفي الوقت الذي بات فيه الطارئون الدخلاء يحتلون بغداد ويتمَلكون ألوف الهكتارات مِن أراضيها، عَزّ فيها شبر يَضُم رفات أبنها الأصيل البار نوري سعيد أفندي البغدادي.
رَحِم الله الباشا وأيامه التي كانت أرقى وأنظف وأنبل أيام عاشها العراقيون وأكثرها أنسانية في تأريخهم الحَديث، فحتى أولئك الذين لم يُدركوا تلك الأيام، بات يكفيهم سَماع ذكرياتها والأستِئناس بأخبارها ليعيشوا أحاسيس وقيم أفتراضية حُرموا منها في زمن جمهوريات العَسكر والصِبيان التي توالت على حكم العراق منذ 1958 وحتى اليوم.
[email protected]