انتهيت من أداء الخدمة العسكرية وبسبب انتمائي القومي التركماني رفضت الدولة العراقية تعييني على ملاكها أسوة بزملائي من حملة نفس الشهادة الجامعية. توجهت مرغماً إلى العمل في السوق بين أصناف مختلفة من العاملين لأجد نفسي في بيئة غير التي كنت أخطط لها. في بداية حياتي العملية كانت الاجواء غريبة جداً لا أتمكن من الانسجام معها فهي المرة الأولى التي أزج فيها إلى السوق طلباً لكسب القوت. حتى غدت الأمور طبيعية فيما بعد. السوق أشبه ما يكون بالغابة الكل يتسارع فيها للهيمنة على الفريسة والكسب بأية طريقة كانت والكثيرون يتفننون في الوصول الى المال بأي شكل من الأشكال وفي الكثير من الأوقات وجدت أن الحلال قد اختلط بالحرام.
بدايتي كانت مع شخص اسمه يلماز عبيد المكنى بـ (أبا أحمد). هو مجلد كتب من الطراز الأول وقد بذل الكثير من السنوات في هذه المهنة وزاولها منذ ستينات القرن الماضي. كان حريصاً على تغليف وتجليد الكتب بأحسن صورة وجاهداً في إرضاء من يقصده. محله الصغير في قيصرية تختص بالتجليد والخط وترميم الكتب القديمة وأسمه كان لامعاً في هذا السوق. هو موظف في شركة نفط الشمال إلاّ أن سني الحصار الظالم القاسي على الشعب العراقي في تسعينات القرن الفارط وتردي قيمة العلمة العراقية والرواتب الزهيدة التي كان يتقاضاها الموظف شهرياً من الدولة لم تكن تغنيه عن مطالب العيش. حاله حال الموظفين الأخرين الذين أخذوا أماكنهم في الأسواق ليسدوا رمقهم شيئاً. يلماز عبيد هذا رغم مرارة العيش قد أطلق حملة خيرية لإفادة المجتمع. حيث تطوع في تجليد المصاحف القديمة مجاناً وعلى نفقته الخاصة. كان يبغي المساهمة في الحفاظ على كتاب الله أينما وجد وادمته بالشكل الذي يليق بمكانة القران الكريم.
علق إعلاناً مكتوباً على ورقة صغيرة على زجاج محله الصغير. بعدها بدأت المصاحف تأتيه من كل صوب ونحو. غمر نفسه في تجليد هذه المصاحب بمواد من أغلى المناشئ وأرقاها. غزارة ما ترده من المصاحف جعلته يقضي نصف يوم عمله في تجليد هذه المصاحف حتى بدأ الأمر يؤثر على عمله وكسبه. لم يتوان في ذلك ولم يرد طلباً لأحد رغم الأعداد الكبيرة من المصاحف التي تجمعت في مكتبه منتظرة التجليد. يوما بعد يوم بدأت هذه المصاحف تنهال عليه بالجملة. هذا يأتي بعشرين والآخر بثلاثين مصحفاً وحدث ولا حرج. الأمر كان جاذباً للانتباه وملفتاً للنظر. بدأ يلماز عبيد لا يجد وقتاً لتمشية أعمال محله ولا فسحة لديه للكسب. بذل الكثير من الأموال في تجليد المصاحف حتى فرغت محله من المواد الأولية المستخدمة للتجليد. الامر تطلب إعادة النظر وإلاّ فإنه لن يقدر على ذلك صبراً.
لم يكن بالحسبان أن يجذب إعلان صغير معلق على محل صغير كل هذا الكم من المصاحف للتجليد. حتى تبين فيما بعد أن أصحاب المكتبات كافة قد أعلنوا عن ذلك في المساجد والجوامع ووجهوا الناس إلى محل يلماز عبيد. الأمر لا يكلف أصحاب المكتبات الذين لا ينفقون درهماً واحداً على هذا التجليد والأمر كله يعود إلى يلماز عبيد. اكتشفنا فيما بعد أن المكاتب الأخرى قد خططوا للإيقاع به وجره إلى العمل دون مقابل في تجليد المصاحف واستنزاف قدراته ليتفرغوا هم إلى التجليد وكسب المشتري والاستحواذ على السوق فهم يجمعون المصاحف من البيوت لياتوا بها إلى أبا أحمد.
هكذا كانت المنافسة في الكسب تقضي أحياناً على كل النوايا الطيبة في النفوس، حتى تخلى يلماز عبيد عن عمله الخيري هذا بعد أن أصبح تحت وطأة العوز دون عمل وكسب وقاب قوسين أو أدنى من الإفلاس.
حمداً لله فإن الرزق على الله وإلاّ كانت الجموع تموت جوعاً.