17 نوفمبر، 2024 12:27 م
Search
Close this search box.

نهج أرسطو في تأصيل الديموقراطية

نهج أرسطو في تأصيل الديموقراطية

قد لا يختلف أي عاقلين حول أن فكرة الديموقراطية هي وليدة الفكر الفلسفي الأثيني، وتم مأسستها في كتاب Politics الذي كتبه أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، والذي يعني باللغة العربية «السياسة»، وهو الكتاب الذي يكاد يجمع كل الباحثين في ميدان العلوم السياسية على أنه منطلق كل النظريات والرؤى والنهوج السياسية التي ظهرت من بعده وحتى عصرنا الراهن.
وقد يستقيم اختزال جوهر رؤية أرسطو عن نهج تأصيل الديموقراطية الحقة في المجتمع، والتي كانت برأيه يجب أن تكون ديموقراطية تشاركية يشارك كل أفراد المجتمع في آلية عملها والتخطيط لمآلاتها، وهو ما كان يعني في عصره كل البالغين من الذكور الأحرار؛ في أنها كانت ترتكز على مبدأين جوهريين اثنين، الأول يتمحور حول فكرة ضمان المساواة النسبية بين أفراد المجتمع من خلال ضمان حصولهم على «ممتلكات كافية دون شطط»، بالإضافة إلى المحور الثاني المرتبط بذلك الأخير وعماده ضمان «الرفاه الذي لا ينقطع» لجميع أبناء المجتمع بحيث لا يتم انزلاق أي منهم إلى قعر الفاقة، وما يستتبعه ذلك من مفاعيل سلبية عليه وعلى من يعولهم.
وبمعنى آخر فإن رؤية أرسطو في كتابه «السياسة» لمفهوم الديموقراطية متواشجة بشكل عميق وعضوي مع ما يمكن تسميته فكرة «دولة الرفاه» بشكلها المعاصر، ومبدأ «العدالة الاجتماعية»، إذ أن رؤية أرسطو لآلية توطيد وحماية الديموقراطية في المجتمع تنطلق مما يبدو أنه كان يَنظر إليه كمسلمة تقوم على أن ازدهار الديموقراطية لا يمكن أن يكون في حال وجود تقاطب طبقي مفرط بين الأغنياء والفقراء، وأن قدرتها على العطاء مشروطة في تأصلها في مجتمع يقوم أساساً على أن جل المنتسبين إليه من الطبقات الوسطى، وبحيث يتم تحقيق العدالة الاجتماعية فيه بشكل سرمدي من خلال إلزام الأغنياء بالتخلي عن جزء ليس بالزهيد من ثرواتهم لأجل رفع ونقل الفقراء في المجتمع من رتبة الفقراء إلى مستوى الطبقات الوسطى.
وفي الحقيقة فإن الرؤية السياسية لكون الديموقراطية الحقة والتقاطب الطبقي المهول بين الأغنياء والفقراء في المجتمع ضدان لا يحتمل جمعهما رؤية متكررة ليس فقط في نتاج أرسطو الفلسفي الثر، وإنما عند الكثير من المفكرين المحوريين الذين تلوه من مفكري عصر الأنوار ومؤسسي فكر التحرر التقليدي أو الليبرالية الكلاسيكية كما تعرف شيوعاً، وهو ما ظهر جلياً عند مفكرين مثل آدم سميث، وجان جاك روسو، ودنيس ديدرو محرر أول موسوعة أنجزها بنو البشر.
وبشكل جوهري تقوم رؤية أرسطو عن نهج تأصيل الديموقراطية على التفكر المنطقي بالأطروحة الفلسفية التالية والتي قوامها أن التقاطب الطبقي في المجتمع بشكل فيه قلة من الأثرياء الفاحشين، وأغلبية من الفقراء المعدمين سوف يقود الفقراء المعدمين في المجتمع إلى استخدام قواهم المجتمعية الديموقراطية للاستيلاء على ممتلكات الأثرياء بقوة الديموقراطية نفسها، وهذا ما نظر إليه أرسطو على أنه جر للديموقراطية باتجاه غير عادل ومنصف، وهو ما يمكن تلافيه من خلال طريق من اثنين، أولهما التخفيف من حدة الفقر- وهو ما كان يعتقد به أرسطو نفسه – من خلال تحويل الفقراء إلى طبقات وسطى بأدوات العدالة الاجتماعية كما أشرنا إليه آنفاً؛ أو بالسير في طريق ثان مفاده تقليم واختزال وقولبة واختصار الديموقراطية، وهو ما كان رأى أرسطو بأنه توجه خاطئ على جميع الصعد ومدمر للمجتمع والديموقراطية في آن معاً.
وذلك التوجه الخاطئ الذي استشرفه أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد تم تبنيه كنموذج شبه أوحد للديموقراطية في كنف الرأسمالية بشكلها المعاصر الذي يستند على مبدأ اقتصاد السوق البربري الوحشي المعولم الذي لا قيمة فيه سوى لما يمكن بيعه وشراؤه في فضاء ذاك السوق وتلافيفه.
وتبرز في واقع البشرية الحديث و المعاصر منذ بواكير الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر حقيقة تبني كل النظم السياسية الرأسمالية الناهضة لنموذج مسخي أشوه للديموقراطية يجافي البعد التكويني الأساسي في رؤية أرسطو للديموقراطية بأنها يجب أن تكون تشاركية ينخرط في سياق آليات عملها وصياغة مخرجاتها جميع أبناء المجتمع، لتصبح ديموقراطية مختزلة عنوانها الظاهري الديموقراطية التمثيلية على الطريقة الرأسمالية المعولمة، والتي يكاد ينحصر فيها خيار الناخبين في الاختيار كل بضع سنين ما بين حزبين رئيسيين الفارق شبه واه فيما بينهما فيما يتعلق برؤاهما السياسية التي تنعكس بشكل فعلي على حيوات البشر اليومية، بينما الفوارق الكبرى فيما بينهما تتعلق بمواضيع خلافية أو مختلقة لا تأثير فعلياً لها على مستوى رفاه وأمان وصحة ومأكل ومشرب المواطنين بأي شكل يذكر مثل الخلافات المعاصرة المستعرة على حق المثليين بالزواج، وحق المرأة بالإجهاض، وما كان على شاكلة ذلك من مواضيع لا تمس جوهر معاناة أبناء المجتمع اليومية.
و في نفس السياق الأخير يتم تقزيم فكرة الديموقراطية التشاركية إلى ديموقراطية تمثيلية يختزل فيها دور الناخبين إلى الاختيار في كل دورة اقتراعية لممثل عنهم نظرياً لا يعرفون عنه شيئاً في الغالب، ويتم انتخابه على أساس «مدى جاذبية شخصيته»، ورأي وسائل الإعلام المتسيد به، وهي المنغمسة من رأسها إلى أخمص أقدام كل العاملين فيها في تلبية رغبات وإرادات المعلنين على صفحاتها وفي ساعات بثها، وهم الذين بتمويلهم يتم تصعيد هذا المرشح أو ذاك إلى المنصة الاقتراعية، وتسويقه، وتلميعه، وحمايته من انكشاف عورته بقوة الإعلانات التي تلجم كل وسائل الإعلام عن القيام بدورها المفترض بها رقيباً وحسيباً على كل ما يمس مصالح المجتمع وأبنائه، لتصبح بدلاً من ذلك بمثابة رأس الحربة التنفيذية، ووكالة غسيل وتلميع وجوه النكرات، وتحويلهم إلى شخصيات عامة جديرة بالارتقاء إلى رتبة الممثلين المقترعين إلى هيئات الديموقراطية التمثيلية المعاصرة كما في المجالس المحلية والبرلمانات وغيرها، دون أن يكون ولاء أي منهم بشكل حقيقي سوى لمن قام بتمويله وتسويقه وتلميعه وحمايته من إظهار هزاله وعريه وخوائه الصميمي، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات لذلك التصور الأخير عن تنكس الديموقراطية من تشاركية إلى تمثيلية مسرحية شكلية لا تغني ولا تسمن من جوع، تتمثل في تمكن بعض الشخوص من الأطهار الأنقياء من الولوج إلى تلك الحلبة التنكسية للديموقراطية التمثيلية، ومنازلة أقرانهم من المصنعين بقوة من يمولهم من وراء الكواليس، وعلى المنصات الإعلامية، والحفاظ على طهرانيتهم والتزامهم بعقيدتهم الدونكيشوتية الصابرة المصابرة في محاولة إصلاح منظومة إدارة المجتمع السائدة في نسق الرأسمالية الليبرالية المستحدثة New Liberal Capitalism المنفلتة من كل عقال أخلاقي أو منطقي سوى ذاك الذي ينظم الربح العميم بأقصر الآجال، وبغض النظر عن أي خسائر جانبية سواء كانت من البشر أو الضرع أو النظام البيئي الحيوي لكوكب الأرض بأسره.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى العملية الموازية لعملية إفراغ الديموقراطية التمثيلية من فحواها «التمثيلي»، واستبدالها بما قد يستقيم وصفه بأنه مسرحية من شاكلة الكوميديا السوداء تتمثل في عملية إعادة تعريف الديموقراطية وفق قاموس الرأسمالية المستحدثة المعاصر لتتغير من حق وواجب مشاركة جميع أبناء المجتمع في إدارة شؤون حيواتهم في مجتمعهم، لتصبح الحق المطلق للمواطن في شراء ما يحلو له وبيع ما يرغب به ما دام هناك مشترٍ له في اقتصاد السوق، حتى لو كان روحه على طريقة مسرحية فاوست للكاتب الألماني غوته.
وذلك التنكس عن رؤية أرسطو للديموقراطية بكونها تشاركية لا بد أن تنطوي بشكل جوهري على مبدأ العدالة الاجتماعية عبر تـأمين وصول الفقراء في المجتمع إلى «ممتلكات كافية دون شطط»، وضمان تمكنهم من إدراك «الرفاه الذي لا ينقطع»، والذي لا بد أن يكون أيضاً دون إفراط أو إسراف، هو تنكس سوف يظل سرمدياً ما دام البشر قاعدين متخاذلين منفعلين خانعين لما يتم تقديمه لهم من أولئك الممسكين بمفاتيح السلطة والثروة والإعلام في المجتمع من الأثرياء الأقوياء، متكئين على أدوات تهشيم قدرات تنظيم البشر لبعضهم البعض في جسد جمعي يجمعهم كما النقابات والاتحادات المهنية والعمالية، كما يتم ذلك على قدم وساق في كل زوايا المجتمعات السارية في نهج الرأسمالية المستحدثة البربرية الوحشية المعولمة، وهو ما يتم تكريسه من خلال دق أسافين تفريق بني البشر عن بعضهم عبر تأجيج الخلافات والتفارقات الإثنية والعرقية والمذهبية والطائفية في المجتمع بين أبناء المجتمع أنفسهم الذين يجمعهم الكثير من العناصر الأخرى المغيبة عن نواظرهم عنوة، والتي قد يكون على رأسها تساويهم في عمق معاناتهم اليومية للبقاء على قيد الحياة، وسد رمق من يعولونهم، وعلاج المرضى من عديدهم.
والحقيقة هي أن الممسكين بمفاتيح السلطة والثروة والإعلام من الأثرياء الأقوياء لم ولن يتراجعوا عن أي من أدوات هيمنتهم على المجتمعات التي يتغولون عليها ما لم تتحرك جحافل المقهورين من المستضعفين والمفقرين، بالشكل الذي تخوف منه أرسطو عبر نهوضهم لإعادة توزيع الثروة في المجتمع بشكل عادل ومنصف، من وجهة نظرهم.
ويثبت التاريخ بأن الغالبية المطلقة من التراجعات التي تضطر الرأسمالية وأباطرتها من أصحاب الحل والعقد من الأثرياء الأقوياء إلى اتخاذها هنا وهناك لتخفيف احتقان نهوض «مارد المفقرين الجمعي» من قمقمه كما كان عندما تبنت النظم السياسية في بعض الدول الغربية عقب الحرب العالمية الثانية لبعض من أدوات «دولة الرفاه»، لم تتم إلا باجتهاد وحشد وتنظيم المفقرين لأنفسهم في سياق تحرك جمعي يترفع عن عناصر التفارق الواهي بين أفراد المجتمع لصالح السعي التكاتفي لإدراك ما هو مصلحة جمعية لكل المتشاركين في ذلك التحرك، مع الإشارة التي لا بد منها إلى عملية التآكل المضطرد لكل تلك المكتسبات منذ حقبة تطفر الرأسمالية إلى شكلها الليبرالي المستحدث منذ ثمانينات القرن المنصرم، والتي كان جوهرها شعار رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر «لا وجود لما يدعى بالمجتمع، فالوجود محصور بأفراد أحرار».
وقد يستقيم القول بأن الخطوة الأولى واللازمة والتي ليس سواها من خيار لتأسيس ديموقراطية تشاركية حقة تتمثل في السعي الدائب لإعادة رأب لحمة المجتمعات المتصدعة، وحشد أبنائها المضنين المدنفين إفقاراً و استغلالاً في تحرك جمعي يرغم المتغولين على المجتمع، والمتلطين وراء أستار الديموقراطيات التمثيلية الشكلية للتراجع خطوة تلو الأخرى بما يفسح المجال لتحقيق ديموقراطية تشاركية حقة تتسق مع نهج أرسطو ورؤيته الثاقبة التي لا زالت صالحة لتشخيص المرض العضال للديموقراطيات الشوهاء التي يراد من المفقرين المستضعفين في عموم أرجاء الأرضين استبطانها والتسليم بوحدانيتها، وانتفاء أي احتمالات لتغييرها جوهرياً بالشكل الذي ارتآه أرسطو من قبل.

 

أحدث المقالات