23 ديسمبر، 2024 1:37 ص

نهاية زمن الأسود الفريد وحلول عصر القرود السعيد

نهاية زمن الأسود الفريد وحلول عصر القرود السعيد

تحليل قصة عرين القطة لمهدي عيسى الصقر
نشرت صحيفة «الزمان» (العدد 1851 – يوم السبت 3/تموز/2004) – قصة قصيرة مهمة للقاص والروائي العراقي المبدع (مهدي عيسى الصقر) بعنوان (عرين القطة) أقول عنها ابتداءً أنها تعيد وصل الأدب بجـذره العـميق النابت في تربة الوجدان المجتمعي، وتجدد العلاقة الحميمة والحاسمة بين المبدع وناسه من حوله، بعد أن طوحت المناهج الحداثية وما بعد الحداثية (البنيوية وما بعد البنيوية – التفكيكية وما بعد التفكيكية) بالنص وصاحبه إلى عليّة بعيدة قصية متشامخة فوق هموم البشر وصراعات مجتمعاتهم ومحنها حتى أوشكت هذه المناهج أن تجرد الإنسان من أحد أهم أسلحته في مواجهة الطغيان والحياة الطاحنة ألا وهو سلاح الفن. يقول (مهدي عيسى الصقر): «بالنسبة لي أعتبر الحس الإنساني أهم من كل شيء. على عكس جماعة (الرواية الحديثة) الذين لا يعنون بالكلمات، البناء كله كلمات، والمؤسف أن بعض الشباب بدأوا يكتبون بهذه الطريقة بعد أن سوّغها لهم بعض النقاد، مثلاً رواية (الغيرة) «لألن روب غرييه»، يتحدث الكاتب فيها عن أشجار الموز، عددها وعدد صفوفها وحجمها وغيرها من الأمور بينما يمر على الأفارقة الجالسين على الجسر مرور الكرام وينطبق هذا الأمر على القصة أيضاً. وحين عرف بعض الأخوة الأعداء (أو الأعدقاء حسب الوصف الموفق للشاعر «جواد الحطاب» في إحدى قصائده) بأنني بدأت مشروعاً نقدياً عن الروائي (الصقر) غمزوني بمكر قائلين: ماذا لدى هذا الرجل كي تبدأ مشروعاً عنه من جزأين؟ كنت أجيبهم بابتسامة ومرارة وأحاول عبثاً إقناعهم أن مغنية الحي العراقية تطرب ليس حينا فقط بل الأحياء المجاورة والبعيدة أيضاً. كنت أرى أن المناقشة في هذا المجال عبث ومضيعةً للجهد وأن الرد الحقيقي يأتي قاطعاً من خلال مبضع التحليل النقدي. وبعد أن صدر الجزء الأول من مشروعي عن (الصقر) عن دار الشؤون الثقافية في عام 2002: «مخيّرون بالشعور… مسيّرون باللا شعور» ثبت أمام الجميع أن (الصقر) هو من حكماء النفس البشرية وأن فنه يحمل معاني ورؤى فكرية هائلة وصراعات نفسية مدمرة تحاول الإجابة عن الإشكال الفلسفي المصيري: «هل الإنسان مُسيّر أم مُخيرّ؟» برغم قناعتي أن طرح الأفكار الفلسفية ليس من واجب المبدع إلا إذا اختمرت وتشكلت مع انهمام لا شعوره بمصائر أبطاله. ويمتزج ثراء المعنى لدى (الصقر) باقتدار فني حكائي محكم ومن الطراز الأول. إن فن (الصقر) بسيط ممتنع شكلاً ومضموناً (مبنىً ومعنىً) وهو ما حصل في هذه القصة القصيرة: «عرين القطة». يضعك العنوان مباشرة أمام صدمة تلقٍ واضحة من خلال التناقض المعلن. فالعرين، لغة، هو مأوى الأسد والضبع والذئب والحيّة العظيمة. واعتدنا في ثقافتنا العامة على ربط مفردة (العرين) بحيوانات الغابة المفترسة (الأسود تحديداً) وما يتداعى في أذهاننا من معانٍ يوحي بها هذا المكان وترتبط بالمَنَعة والخطورة والتحسّب وجبروت صاحبه حتى ترسخّت هذه الإيحاءات في نفوسنا وامتدت إلى استعاراتنا الأدبية التي باتت تتعكز على خصال من الحيوانات شبه المنقرضة بفعل عدوانية الإنسان لمداواة قروح ضعفنا النفسي والبدني قياساً بها. ويربط القاص مفردة (العرين) باسم كائن حيواني آخر أليف وضعيف فيربك، بقصدية وتخطيط مسبق، مسلماتنا ويعدّنا فكرياً ونفسياً لاستقبال موضوعة هي خارج السياق الدلالي والعلمي المألوف، ويثير العنوان وفق الصيغة علامات استفهام سريعة: فأما أن صاحب العرين المؤصل (الأسد) قد (اختفى) أو (أُبعد) لسببٍ ما فحلّت القطة محله، وهي مصيبة لها انعكاساتها الدلالية والنفسية ليس على روابط مجتمع الغاب فحسب بل على سياقات المجتمع الإنساني في مسلماته الراسخة من ناحية وفي خيبة أمل المؤمنين بالمسلمات وهم يفاجئون (الملك) في عرينه من ناحية ثانية، وإما أن القطط، وهذا احتمال قريب في زماننا هذا، زمان الخراب والعجاب، قد استأسدت واستفحلت (يجوز بفعل تخنث الأسود) ومالت لها الدنيا وناخت على طريقة: (إن أقبلت باض الحمام على الوتد – وإن أدبرت بال الحمار على الأسد) فاكتسحت عُرن الليوث مطوّحة بكل مسلّمة قائمة من ناحية ثالثة. وإمعاناً من القاص في تعزيز مفارقة العنوان الدلالية وتعميق هوة دهشة القارئ فإنه لا يستخدم المفردة الدالة على الجنس الذكوري (عرين القطة) لأن ذكورة الأخيرة قد تخفف من وقع المفارقة المرّة في حين تدفع المفردة الأنثوية (القطة) وإيحاءاتها المسالمة وألفتها بهذا الوقع إلى حدود بعيدة صادمة. وينبغي عليّ القول إنني حين تناولت العنوان فلأن هذا من واجبي كناقد يحاول إضاءة أكثر ما يمكن من جوانب النص، شكلاً ومضموناً، ولكن هذا ليس من واجب القارئ لأن هذا يخالف الناحية “الاقتصادية” النفسية في العمل المعرفي (مقدار الطاقة المصروفة). وما أقصده هنا هو أن بعض النقاد قد بالغ في موضوعة (ثريا النص). فالقارئ لن يقف طويلاً أمام عنوان مثل (الرجع البعيد) مثلاً ليسأل نفسه: ما هو الرجع وما هو البعيد وما الذي يعنيه الروائي بهما؟ سيقلب القارئ صفحة الغلاف سريعاً ليدخل ساحة الرواية التي قد ترد فيها إشارات إلى العنوان أو يبقى العنوان مقطوعاً عن المتن أو يكون له دور توضيحي فاعل. المهم أن ذلك يتم بعد استكمال «الصورة الكلية – الجشطلت – Gestalt». سينتبه القارئ إلى مفارقة (عرين القطة) ويعدّ نفسه لاستقبال مفاجأة/ذروة تجسدها وقائع القصة وهو ما صمّمه القاص فعلاً.
يتحرك على مسرح القصة شخصان هما: أب وطفله الصغير، وقد جاءا في زيارة إلى حديقة الحيوان حيث يلح الطفل علـى أبيـه لمشاهدة الأسد/ملك الغابة في عرينه. الأب يقود صغيره بهدوء ليريه الحيوانات المختلفة، الأليفة والمفترسة في أقفاصها ريثما يصلان عرين الملك، والصغير، بفعل براءته وحماسته، يلح على أبيه بشدة للوصول إلى (الملك) أولاً وبسرعة. لقد حشا المعلم رأسه الصغير بمعلومات معروفة لنا لكنها قطعاً تثير فضول ولهفة طفل لم يتشرّف برؤية (الملك) سابقاً:
«معلمنا يقول إنّ الأسد هو ملك الغابة، صحيح؟»
«معلمنا يقـول إنـه يرج الغابة كلها حين يزأر فتفرّ الحيوانات مذعورة، أما الطيور، يقول المعلم، فإنها تهيم في السماء لا تعرف أين تذهب».
وبعبارة بسيطة يردّ بها الأب على طفله الذي يسأله: هل الأسد ملك الغابة فعلاً كما يقول المعلم، ويقول فيها، أي الأب – أكثر الناس يعتقدون ذلك!!»، يحيلنا (الصقر)، وهي عادته دائماً، إلى إيحاءات ماكرة ومسمومة، فتجريد الأب لهذه الحقيقة المؤسسة: الأسد ملك الغابة، وطرحها كفرضية مترددة لا يجمع عليها “كلّ” الناس يسهم في وخز قناعاتنا الباردة، والوخزات البسيطة المتكررة توصل حسب (تكتيك) (الصقر) السردي إلى نفس نتيجة الطعنة الحادة القاطعة ولكن بعد قدر محسوب. ولعل هذا هو السبب الذي جعله يملأ ما أسميه بـ(الفُسَح السردية) في القصة، وهي المساحات الممتدة بين إحالتين لموضوعة القصة المركزية، يملؤها بما يعزز المفارقة من ناحية ويمهّد للحظة ذروة ناجزة وفاجعة من ناحية أخرى، فبعد أن يدخلنا القاص مع ركضة الصغير المتشوّق في الاستهلال وعبوره بوابة حديقة الحيوان، إلى ساحة الحدث المركزي ويقول الأب جملته السابقة جواباً على تساؤل صغيره، يبدأ بوصف أجواء الحديقة الكرنفالية وصفاء السماء وسطوع الشمس وصخب الروّاد وفرحهم. ويمشي الأب “الملك” منتشياً بفعل الدور الأبوي السلطوي، وكأنّ القاص يحاول خلق وشيجة نفسية خفية بين (المَلِكَين) سنرى قوتها في نهاية القصة، ويشير في نفس الوقت إلى أجواء احتفالية تليق بملك إمعاناً في تعزيز وقع المفارقة المقبلة. لكنه، أي القاص، وفي الطريق إليها يهمه أن لا يغيّب انتباهة القارئ كلياً فيقدم وخزة أخرى حين يُري الأب طفله حيوان الطاووس في قفصه:
«انظر إلى الطاووس كيف يفرد ريشه الملّون؟ ويصر الطفل على رؤية الأسد. يقول الأب: «سوف نراه عندما نصل إلى بيته، بالقرب من نهاية الحديقة».
ومن المؤكد أن الناحية الفنية المتعلقة بمسار القصة كانت سبباً في اختيار القاص مثل هذا الموقع لعرين أسده ولكن الوحدة النفسية لوقائع القصة تفرض ذلك أيضاً. فعلى غير عادة الأسود التي تحمي عرينها وتتربع على عتباتها يرى الصغير الملك في مؤخرة مملكة الحيوانات. وعقلية الصغير لا تتحمل أن لا يكون الملك أول كل شيء. الأول في المشهد الابتدائي من المسكن، والأول في الاعتبار، فقد تشبعت روحه الصغيرة اللائبة بجبروت هذا الكائن وبطشه من خلال معلمه (وهو ملك أيضاً بحساب المرجعية النفسية والاجتماعية). ما الذي يهمه من نسر أصلع يجثم على غصن بائس أو نعامة ذات رقبة مسلوخة تلتقط حبات الذرة من كفّ أبيه أو بط وأسماك سائحة في البحيرة. أبوه يعرض عليه الرعية المأسورة الخانعة وهو يريد رؤية ملكها شديد البأس. وها هو الآن أمام عرين الأسد. الآن هذا هو ملك الغابة، جمد الصغير أمام القفص مبهوراً.. اقترب لا تخف، فهو حبيس، ولن يستطيع أن يفعل لك شيئاً. تلاشت حماسة الطفل من هول الصدمة من مشهد لا تحتمله نفسه الغضة الطامحة، ها هو (ملكه) بلحمه وشحمه ولكنه سجين.. الملك سجين، وفوق ذلك مُذلٌّ ومُهان، وبرغم أن القاص يقول:
«عندما تلاشى أثر صدمة اللقاء الأول من نفس الصغير”
إلّا أنه في الواقع لا يتيح له، ولنا، أن نصحو من صدمات الخيبة والإحباط المتلاحقة والمُصمّمة. فبدل العرش، عرش الملك وهو جزء من مستلزمات ملوكيته، العرين المحصن في ذهن الصغير على الأقل، وجد الملك مسدوحاً في غرفة (تشبه الزنزانة) كما يقول القاص:
«سقفها واطئ وجدرانها سود، كانت الأرض التي ينام عليها الأسد مبلولة تتناثر عليها الأوساخ والعظام المهملة. وكان الحيوان يتمدد، على الأرض، بشكل أفقي إلا أن رأسه كان بين ساعديه كما تفعل الكلاب أحياناً حين تنام، تحت ساعديه تنحشر عظمة علق عليها شيء من اللحم الأسود. بدأ الأسد شديد الهزال، عظامه الناتئة توشك أن تشق جلده.. هذا كأنه ميت.. أحسّ الأب بالخيبة في نبرة الصغير”.
هكذا يمكن أن يتحول أعتى الوحوش/الملوك إلى كائن لا مكترث، عديم الكرامة، خائر الإرادة حين تُسلب منه قدرته على الفعل، أو قُلْ يُجرّد من عرينه الطبيعي و(مجال) حكمه وفاعليته واقتداره ويُلقى كنفاية (مختبرية) للفرجة وكـ(لعبة) مسلوبة المقدرات، تحضرني هنا تجربة شهيرة لعالم النفس المعروف (مارتن سليجمان) الذي جاء بكلب إلى المختبر ووضعه في صندوق زجاجي ذي أرضية معدنية مقسوم إلى نصفين بواسطة حاجز واطئ يتيح للكلب القفز من قسم إلى آخر، فوجد أنه حين كان يوجه صعقة كهربائية من الأرضية يقفز الكلب إلى القسم الثاني ليتخلص من الألم ويطلق عواء احتجاج وألم. ربط أطراف الكلب بسيور معدنية ثم وجه الصعقات. عجز الكلب عن الخلاص، عوى بشدة فلم يفد.. فما كان منه إلا أن يتمدد بائساً ومستسلماً ليتسلم الصعقات مع أنين بدأ يخف شيئاً فشيئاً.. الأمرّ والأدهى هو أنه حين نقل هذا الكلب إلى قفص آخر مماثل استمر في الاستسلام للصعقات رغم أن قفزة بسيطة تنقذه من سياط العذاب في زمن محنة تبول فيه القطط على الأسود وتخمش سواعدها بمخالبها الصغيرة.
انطفأت حماسة الابن نحو الأنموذج الأبوي المقتدر للتماهي معه وتقمص خصال شخصيته والاقتداء بفضائله وجبروته. وفي حركة ختامية ينفلت الصغير راكضاً لينحشر بين زحام الناس أمام أقفاص القرود تاركاً أباه وحيداً، في حين أنه كان متعلقاً به عبر مسار القصة معتمداً عليه كسلطة مرجعية في الوصول إلى عرين الأسد. كان المفتاح، مفتاح القرار بين يدي الأنموذج الأبوي المهيمن، أما الآن، وبعد أن نفض الابن يديه من أي اتكال ومهابة تجاه الملك/الأب/المعلم/القائد، فقد اتخذ قراره، ولأول مرة بنفسه، وانطلق نحو القرود تاركاً أباه وحيداً يحدق أمامه في شرود.
هل يريد (الصقر) الحكيم القول، إضافة إلى الدروس السابقة، إن للنفس البشرية طفولة تبدأ عند باب حديقة حياتها تلهث فيها بحثاً عن إرادة أبوية حامية، لكنها ستجد عاجلاً أم آجلاً أن لا مناص من (التفرد) والاستقلال ومواجهة الخديعة الفاجعة؟ ومن الواضح أن هناك اندفاعة مفرطة في الوصف حين شبّه القص صرخات القردة بضربات السكاكين، إنها، بلا شك طعنات سكاكين الإحباط والخذلان تمزق، بلا رحمة، وجدان وروح الملك/الأب/القاص وهو يشهد بحكمته الجريحة ورؤياه المأزومة قطة جسوراً تعلن انهيار زمن الأسود الفريد وحلول عصر القرود السعيد.