19 ديسمبر، 2024 12:53 ص

نهاية  التاريخ.. وانعدام اليقين

نهاية  التاريخ.. وانعدام اليقين

ربما تبدو الكتابة، لدى بعض القراء الكرام، عن هذا الكتاب متأخرة ، وقد يعدها بعضهم لا معنى لها حالياً، خاصةً بعد أن تراجع أو عدل صاحب نظرية (نهاية التاريخ) ذاته، في حواراته الإعلامية والصحفية، عن بعض أطروحاته التي وردت في كتابه، لكن الواقع العالمي، وفي المنطقة العربية والإقليمية تحديداً ، ما زال يدفع ثمن ما تبناه (تيار المحافظين الأمريكيين الجدد) على وفق تصوراته العملية والفكرية وخاصة أطروحته عن (النظام العالمي الجديد) والتي بشرَ بها ونظّرَ لها(فوكيما) في كتابه ، وتبناها عملياً صقور البيت الأبيض ، خلال حكم الحزب الجمهوري و رئاسة (جورج بوش) الابن لدورتين، وفي مقدمتهم : و ولفوتز وغونزليزارايس ورامسفيلد وديك تشيني، وكانوا أهم صناع القرار الأمريكي. لقد اقترح في هذا الشأن “جاك ديردا” بان يوصف مصطلح (النظام العالمي الجديد):” بكلمة (أمر/ order ) ، وذلك نظراً للسياسة والممارسات الأمريكية الراهنة، ويرى(ديردا) إن كلمة (أمر) في هذا الجانب ما هي إلا قراءة  واقعية للفكر الرسمي الأمريكي المعاصر، كما يذهب( دريدا) إلى أن مفهوم (أمر) يدل دلالة واضحة على ما يسود عالمنا حالياً، لذا يقترح أن يُستبدل مصطلح”النظام العالمي الجديد” ، بـ”الأمر العالمي الجديد” ، كونه قراءة واقعية للفكر الأمريكي الرسمي الراهن.(ص86 )- أطياف ماركس- ترجمة د. منذر عياشي.
      يعتبر كتاب (نهاية التاريخ والإنسان الأخير*) لـ”فرانسيس فوكوياما”الياباني الأصل الأمريكي الجنسية، من أهم الكتب التي طرحت على صعيد الايدولوجيا الأمريكية، في نهاية الربع الأخير من القرن العشرين، وقد عده بعض الباحثين العالميين (مانفستو) اللبرالية الجديدة-الأمريكية، بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى دول عدة خاضت حروباً قومية وحدودية في ما بينها، وتشّرذم (المعسكر الاشتراكي) وبات حلف وارشو ضمن مقتنيات متحف التاريخ، وتحول النظام الرأسمالي الأمريكي (المتغول) إلى قطب عالمي وحيد، بعد حرب الخليج الثانية.والكتاب في متنه وجوهره لم يسعَ إلى اعتماد الجدل الفكري المتميز بل كان استعارات مما سبقه من مناهج ونظرات فلسفية،سابقة، من دون إخضاعها للنظر النقدي أو التفكيكي الحداثي، بعد أن عبرها الزمن وعبث بها وأسقط بعض أطروحاتها،وتم اقتصار مناهجها  على لي عنقها تجاه ما أطلق عليه بـ”قوة الوقائع الأمريكية الحالية” وتحولت تلك الأفكار من محاضرة، صغيرة، ألقيت في مركز التاريخ التابع لجامعة شيكاغو،ونُشرت بعد ذلك في مجلة أمريكية، وتم التأكيد فيها على أن الديمقراطية اللبرالية-الأمريكية الراهنة هي:”منتهى التطور الايدولوجي، والشكل التاريخي والنهائي لأي حكم”. من هذه الزاوية  انطلقت أطروحة”نهاية التاريخ والإنسان الأخير”. ثم تحولت المحاضرة إلى كتاب اكتظّ بالكثير من الأفكار التي يوفرها التاريخ لأي باحث، فمن المعروف أن التاريخ “كريم جداً”على الدوام، إذا تم التعامل معه بصفته(مدونات) مجردة،لمن يشاء الدخول في دهاليزه خاصة إذا كان منحازاً لما يتنافى مع صيرورة التاريخ ووقائعه وإغضاء النظر عن سيره الذي يتسم بالبطء والغموض في تحولاته ومأساويتها وغدرهاً. وحيث يروي التاريخ تطور علاقة الإنسان بالطبيعة فلا يمكن أن تكون هناك أحداث تاريخية متباينة لهذه العلاقة. وقد ترتب على (فوكوياما) أن يقصي(كارل ماركس)، من أجل أن يصل إلى النتيجة التي وصل إليها (هنتنغتون) وهي انتصار الحضارة الغربية على ما عداها من حضارات لها عمقها وفعالياتها الإنسانية في التاريخ ذاته، وتبنى (فوكوياما) معارضة (ماركس) بتغيير محرك التاريخ الذي اكتشفه الأخير، وهو ان التاريخ (صراع طبقات) دموي غالباً. فقد قال فوكوياما إن للتاريخ محركاً واحداً فقط – بهذا الشأن يمكن مراجعة مداخلة الأستاذ فؤاد النعيري المنشورة في صحيفة الحوار المتمدن الالكترونية اليومية – وبذا فإن (فوكوياما) يتجاهل ويغض النظر، بقصدية ليست بحثية أو محايدة ،عن حركات وتمردات شعبية،اجتاحت العالم ، وواجهت الرأسمالية المتوحشة وعولمتها، بحثاً عن الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية والهوية الثقافية الوطنية والنزوع المتزايد شعبياً ضد(الرأسمالية وعولمتها)، خاصة بعد انهيار دول الأفكار الشمولية بطريقة غرائبية. ذهب تيار (المحافظين الجدد) على ضوء نشوة الانتصار العسكري والوفرة الاقتصادية الأمريكية المؤقتة،لاستثمار أطروحات فوكوياما بما سمي ” اغتصاب الوقائع التاريخية”. وقد جهد الكاتب لإيقاف صيرورة التاريخ وحركته المتواصلة، وقدم فيه أطروحته لبناء ايدولوجي إطلاقي جديد ظاهرياً  في زمن شهد ولا يزال يشهد عصر انتهاء الأفكار الاطلاقية،وهو ما تكشفه الوقائع الحالية إذ بدأ النموذج الأمريكي بالدحرجة والانكماش اقتصادياً، فمنذ  بداية عام 2011 أفلست عشرات الشركات الصناعية الأمريكية الكبرى وانهارت كل شركات العقارات وأغلب المصارف وبات الآلاف من الأمريكيين يعيشون بلا مأوى وعلى المعونة الاجتماعية التي تقلصت إلى حدها الأدنى، وثمة نزاع بين الرئيس(أوباما) والكونغرس الأمريكي حول التأمينات الصحية وأمور أخرى تقف خلف منافعها(لوبيات) كبرى تتحكم في الحياة اليومية للناس في أمريكا التي ارتفعت نسبة البطالة فيها بشكل لم يشهده القرن العشرون كله، فالنظام في أمريكا لا “يقوم على ذاته ولا يعمل بذاته ولذاته، وهو بحاجة لاستدانة مليارين من الدولارات يومياً ” للبقاء على قوته وتجبره وفظاظته العسكرية. النظام الأمريكي في حقيقته لا يطرح أمام البشرية سوى(الرأسمالية والعولمة)المتوحشتين لتحقيق السيطرة على شعوب العالم،خاصة المنطقة العربية، ونهب ثرواتها وتفتيت مؤسسات الدولة الوطنية،ما جرى في العراق أولاً، وليبيا القذافي ثانياً،ناهيك عن أفغانستان لمطاردة(القاعدة وحركة طالبان) المصنوعتين أمريكياً، وما يحصل في سوريا حالياً بالاستفادة من قسوة ودكتاتورية نظام البعث السوري، وخلق هوامش في المنطقة العربية حصراً، لا عمق اجتماعياً لها،إمارة (قطر) مثلاً، للعب دور محلي ودولي، لا يتناسب مع حجمها الديموغرافي أو عمقها الحضاري- التاريخي، لغرض تمزيق وتفتيت المنطقة العربية وشعوبها وكياناتها الكبرى، والعبور بعد ذلك نحو المنطقة الإقليمية المحيطة بها،عبر مشروع(الشرق الأوسط الكبير)الأمريكي- الصهيوني، خدمةً لإسرائيل ولإثبات(حقائق) تنقض مضمونها الوقائع اليومية من خلال تمجيد الرأسمالية التي تنتج القسوة والعنف، وشراهة المصارف الكبرى والشركات عابرة القارات، وإهمال الدولة لشعبها،بالترافق والإصرار على تجاهل أن(للعولمة) جانباً إنسانياً يقوم في  وحدة بشرية ضمن عالم إنسانيٍ مدني  متحضر، والاحتفاظ بخصوصية استقلال الوعي والهوية الثقافية الوطنية-التاريخية المتوثبة للدفاع عن ذاتها أمام التحدي المصيري الراهن الذي تفرضه الرأسمالية الأمريكية ومصالحها الفظة. تم وصف منطق(نهاية التاريخ والإنسان الأخير) وأطروحاته بمحاولة “ناعمة” لإخضاع الآخر بـ”القوة”،من اجل إرساء مجتمع عنصري نخبوي أمريكي ، لزعامة العالم اقتصادياً وثقافياً وسياسياً والانفراد به دون الإنسانية، التي عليها السير مرغمة خلف النخبة الأمريكية للفوز بالغنائم والنِعم، دون النظر لغالبية شعوب العالم التي ستغدو ضحايا هذه النظرية، والذين لن يركنوا إلى هذه الجحيم الأرضية الجديدة التي ستزجهم فيها (نهاية التاريخ )،غير المؤكدة، وحسب حراك شعوب العالم والوقائع الجارية حالياً في مجريات الأحداث المحلية-الدولية لمن يدقق فيها بعدم انحياز.إن الوضع العالمي الراهن بسيادة القطب الواحد وقدرته الحادة على استخدام التكنولوجيا الفائقة جداً، واستثمارها إلى حدها الأقصى بالترافق مع توجهات الرأسمالية الأمريكية وقدراتها العسكرية الضاربة، وموافقتها على إزالة بعض الدكتاتوريات في المنطقة العربية، التي صنعها توحشها ذاته،بينما يتم غض النظر عن بعضها، ومنها النظام السعودي بسنده الفكري الوهابي مُنتج الإرهاب العالمي،وإمارة البحرين وموقفها من المعارضة البحرينية، دون النظر من قبلنا لبعض التوجهات الطائفية لبعضها،والقسوة المفرطة بمواجهة حركات الاحتجاج المتواصلة في الشارع البحريني ومطالبها الاجتماعية المشروعة في المساواة والعدالة الاجتماعية-الإنسانية وحق المواطنة دستورياً وفعلياً،وكذلك انتهاك الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.فإسرائيل في نزوعها نحو فرض(يهودتها) على العالم بتأييد أمريكي مطلق ستكون كياناً(ثيوقراطياً) بمواجهة (الثيوقراطية) الإيرانية الراهنة رغم البهرجة الانتخابية- الديمقراطية  فيهما، والسعودية والبحرين وبعض دول الخليج النفطية بالذات، محط رعايتها وعنايتها، وتتجاهل الانتهاكات الإنسانية الفظة التي تقع فيهما. ربما سيتميز مستقبل العالم بجيل جديد من تقنيات الحروب الصغيرة المصممة على وفق المصالح الأمريكية وهيمنتها الدائمة. الرؤيا التي انطلق منها فوكوياما هي تغيير محرك عربة التاريخ، الصراع الطبقي، فوفقاً لرؤيا فوكوياما الحديثة في التاريخ، لَما تغير التاريخ نوعياً، ولَما كان في كل عصر طبقات مختلفة ، بعضها تسيطر بقوة السلطة ونفوذها وتستغل الدين وما ينتجه مَنْ يعمل على تفسير أطروحاته الفقهية ،تخصيصاً، كونها صناعة بشرية وبذا يتم استغلال الدين ذاته لصالحها بالإضافة إلى امتلاكها الثروات بطرق غير مشروعة، وطبقة وفئات اجتماعية دنيا ستبقى محكومة ومندحرة إلى الأبد بحرمان وعوز وانتهاكات دائمة. كتاب  فوكوياما على رغم الهالة التي منحه له تيار الـ(محافظين الأمريكيين الجدد) الذين بزغ نجمهم في زمن الرئيس(رولاند ريكن) المتشدد وصاحب مشروع حرب النجوم، قد جاءوا من أقصى يسار التيار التروتسكي(المتصهين) بسبب تصورهم و قناعتهم التلفيقية بـ(يهودية)تروتسكي، التي لم يعرها تروتسكي ذاته، في حياته و توجهاته العملية والفكرية،اهتماماً ما، كون تروتسكي هو صاحب نظرية(الثورة الدائمة) عابرة الحدود القارية،والشاملة شعوب العالم كلها،بغض النظر عن اللون والعرق والجنس والمكان والزمان،لتحقيق العدالة الاجتماعية- الإنسانية على الأرض التي يعيشون عليها. تألف الكتاب من(398) صفحة من القطع الكبير، وبحرف منهك و صغير جداً، وتقسم على(5) أقسام وكل قسم احتوى على فصول متعددة ، وثمة ثبت بالمراجع ومقدمة خاصة بالمؤلف وقبلها مقدمة الأستاذ مطاع صفدي. لم تلق أطروحات”نهاية التاريخ والإنسان الأخير” ،بحدود معرفتنا واطلاعنا البسيط، اهتماماً مناسباً عربياً إلا ما ندر. لكن الأستاذ (مطاع صفدي) تصدى لها في مقدمته للترجمة العربية بمتانة وجهد  فكري عميق وواجهها بتمكن متميز- وللأمانة نؤكد استفادتنا منها، لحد ما، في هذه القراءة-عندما ذكر في مقدمته للكتاب والتي وقعت بـ(42) صفحة بأن”النخبوية تذيع بيانها،تعلن خلاصها من التاريخ وأهله معاً. تشرع في بناء ايدولوجيا للسيطرة على عالم منقسم إلى فريق الميؤس منهم، وفريق المتنعمين بكمال التاريخ. لكن خطاب(النهاية)يظل يجلجل داخل أسوار التاريخ عينه. والازدحام وراء بوابة الخروج منه،بالغ أوجه. و(الإنسان الأخير) حلم باهت يرتسم على ضواحي السور دون أن يبلغه احد بعْدُ حقاً”. أطروحة “نهاية التاريخ..والإنسان الأخير” في حقيقتها وتوجهاتها هي انعدام اليقين بشأن مستقبل البشرية، وهي تعارض وتعاكس منطق تطور التاريخ الإنساني ذاته و الذي لا ينتهي، مطلقاً، ولا يستنفد قواه أو يجمد عند مرحلة واحدة أو زمن ما، لذا لن يتوقف صراع المصالح الاجتماعية والطبقية عن الحراك والتصادم،مها كان نوعه وشكله وزمنه و مَنْ معه أو ضده عالمياً أو محلياً.
* مستنسخ-الإشراف والمراجعة والتقديم: مطاع صفدي/ فريق الترجمة:د.فؤاد شاهين، د.جميل قاسم ، رضا الشايبي