18 ديسمبر، 2024 9:03 م

نهاية أسطورة شولوخوف

نهاية أسطورة شولوخوف

أصبح نشر الجزء الأول من رواية « الدون الهادئ» المنسوبة إلى ميخائيل شولوخوف عام 1928، حدثاً استثنائياً بالغ الغرابة في الأدب الروسي. فهي رواية ملحمية عظيمة تصوّر بصدق وعمق حياة الشعب القوزاقي في منطقة الدون، قبيل وإبان الحرب العالمية الأولى، ومقاومته البطولية للغزو البلشفي خلال الحرب الأهلية، التي اندلعت عقب ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917.

الرواية تفضح ممارسات الجيش الأحمر البربرية تجاه السكان القوزاق، ومصادرة ممتلكاتهم وتشريدهم، والتصفية الجسدية لقادتهم ومثقفيهم. هذه رواية لم يكن بوسع كاتب بلشفي أن يكتبها. فالتوجه الأيديولوجي لمؤلف الرواية يتناقض تماما مع ما كان سائدا في أعمال الكتاب الروس في تلك الفترة، من الإشادة ببطولات الجيش الأحمر في القضاء على أعداء الثورة.

الرواية تشيد بالعهد القيصري، في وقت اشتدت فيه الحملة الستالينية على الخبراء المخضرمين من العهد القيصري، ومحاكمتهم بتهم معاداة النظام البلشفي والتجسس والتخريب الاقتصادي. كيف يمكن لكاتب شاب بلشفي مغمور أن يكتب مثل هذه الرواية المناهضة للثورة؟ وكيف سمح النظام البلشفي بنشرها؟ وهل شولوخوف هو مؤلف هذه الرواية حقاً؟ ومن هو المؤلف الحقيقي؟ هذه ألغاز محيرة، حاول عدد كبير من الباحثين الروس والأجانب، الإجابة عنها طوال العقود التسعة الماضية.

 

مشروع رواية عظيمة لكاتب بروليتاري

 

قضت ثورة أكتوبر 1917 على التطور الطبيعي للأدب الروسي، بتطبيق مبدأ «حزبية الأدب» أو بتعبير آخر حصر الأدب في نطاق التوجهات الأيديولوجية للحزب البلشفي. وفرض البلاشفة وصاية صارمة على الأدب، وجرى اضطهاد كل من يفكر ويكتب خارج هذا الإطار، ما أدى إلى هجرة أبرز الأدباء الروس إلى الدول الأوروبية وأمريكا. وكان على من تبقى منهم داخل البلاد طريقان لا ثالث لهما: إما التكيّف مع الواقع الجديد، وكتابة ما يحوز إعجاب السلطة، أو الصمت.

كان الحزب البلشفي بحاجة إلى رواية عظيمة بمستوى «الحرب والسلام» لليف تولستوي، شريطة أن يكون المؤلف بلشفيا من الأوساط البروليتارية. ولم يظهر كاتب عبقري بروليتاري واحد خلال عقد كامل من عمر النظام البلشفي، رغم الورش (الإبداعية) العديدة التي أقامها اتحاد الكتاب البروليتاريين لتعليم الكتابة الأدبية لمن يرغب في ذلك. لكن هذه الورش منيت بفشل ذريع. وفي الوقت ذاته كان الأدباء الروس في المهجر ينشرون أعمالا أدبية رائعة. وكان ذلك دليلاً على خصوبة الأدب الروسي الحقيقي، وفقر وبؤس الأدب البروليتاري.

خلال الحرب الأهلية في منطقة الدون وقع كاتب قوقازي معروف، يحمل رتبة ضابط في الجيش الأبيض أسيرا في قبضة مقاتلي الجيش الأحمر. وكان الضابط يحمل حقيبة ميدانية تحتوي على مخطوطة رواية ضخمة بعنوان «الدون الهادئ». وكعادة البلاشفة في عدم الحفاظ على حياة الأسرى، سرعان ما أعدم رميا بالرصاص. تم عرض مخطوطة الرواية على الكاتب القوقازي الشيوعي المعروف الكسندر سيرافيموفيتش، المقرب من الكرملين، الذي أدرك أن أمامه رواية ذات قوة فنية نادرة. لكن كان من المستحيل نشرها باسم المؤلف الحقيقي، أو باسم سيرافيموفيتش نفسه، حتى لو مرت الرواية من خلال الرقابة. ما العمل إذن؟ الروح القوقازية المتأججة لسيرافيموفيتش، كانت تلح على ضرورة فسح الطريق أمام هذا الكتاب العظيم عن قوزاق الدون. لا ينقذ الموقف إلا كاتب بروليتاري ناشئ.. كان شولوخوف مقرباً من سيرافيموفيتش ـ ويقال إنه ابنه غير الشرعي – وصالحا تماما للقيام بدور كاتب عبقري بلشفي ناشئ. وكان هذا يتناغم تماما مع تطلعات الكتّاب البروليتاريين والتوجهات الأيديولوجية للحزب الحاكم.

عرض سيرافيموفيتش على المسؤول البلشفي عن الثقافة، نشر الرواية باسم شولوخوف، على أن يتم إعداده لهذا الدور، لكنه استدرك قائلا، إن شولوخوف لم يكمل حتى الدراسة الابتدائية، فاجابه المسؤول: «هذا أفضل».

لم يكن بمقدور شولوخوف أن يكتب شيئا ذا قيمة، فتم تكليف مجموعة من (الكتّاب الأشباح) بالتمهيد لظهور كاتب عبقري ناشئ.. في البداية نشرت ثلاث مقالات باسم شولوخوف، ثمّ مجموعتان من القصص القصيرة هما «قصص الدون» عام 1925، و»سهل آزوف» عام 1926. وقد تعمد (الكتّاب الأشباح) حشو هاتين المجموعتين بمقتطفات من المخطوطة الأصلية لرواية «الدون الهادئ» ومن المؤلفات المنشورة لمؤلف الرواية الحقيقي الكاتب القوزاقي الكبير فيودر كريوكوف، لتبدو الرواية التي سيتم نشرها لاحقاً باسم شولوخوف، تطورا طبيعيا لأسلوبه. ومع ذلك تضمنت المجموعتان تناقضات وأخطاء فادحة، لا يمكن لكاتب قوقازي كبير مثل فيودور كريوكوف أن يرتكبها.

 

تساؤلات وشكوك

 

ظهرت الشائعات الأولى عن الانتحال فور نشر الجزء الأول من الرواية عام 1928. وقد تناول المؤلف في هذا الجزء، أحداث الحرب العالمية الأولى، والحرب الأهلية بين الجيشين الأبيض والأحمر في منطقة الدون.. لكن بحلول بداية الحرب العالمية الأولى، كان عمر شولوخوف تسعة أعوام، وبحلول نهاية الحرب الأهلية أربعة عشر عاماً، ولم يكن، ولا يمكن أن تكون لديه معرفة بالوقائع المتعلقة بتلك الفترة. علاوة على ذلك، لم يكن شولوخوف يعرف شيئاً عن الحركة البيضاء، وعن قادتها، في حين تتسم الرواية بدقة أثنوغرافية نادرة ومعرفة تفصيلية دقيقة بالمجتمع القوزاقي.

شولوخوف لم يكن ينتمي للقوزاق لا بالدم، ولا بالتربية، بل من منطقة ريزان. وقد ترك الدراسة وهو في الصف الثالث الابتدائي، في حين أن تأليف مثل هذه الرواية يتطلب خبرة حياتية، ومستوى معيناً من التعليم. لذا شكك كثيرون في قدرة

شخص شبه أمي، لا يزال في الحادية والعشرين من عمره، على كتابة عمل أدبي ضخم بمثل هذا العمق السايكولوجي، ولم يكن شولوخوف قادرا على الاعتماد على الملاحظات الشخصية، أو دراسة الأعمال التاريخية (التي لم يكن هناك أي منها تقريبا في ذلك الوقت). شولوخوف لم يكن يقرأ الكتب ولم يشاهده أحد في يوم من الأيام وفي يده كتاب. وتزداد دهشتنا إذا عرفنا أن في « الدون الهادئ» أحد عشر خطا سرديا، وألف شخصية روائية بينها 350 شخصية بأسمائها الحقيقية في الحياة، هذا أمرغير مسبوق وغير واقعي على الإطلاق.

لا يمكن أن تكون مثل هذه الرواية الملحمية هي الرواية الأولى لكاتب ناشئ، شبه أمي، حتى إن كان عبقرياً، حيث لا يمكن لأي عبقري أن يصف حياة القوقاز ويصوّر المعارك العسكرية بكل دقائقها، من وجهة نظر مقاتل قوزاقي في صفوف الجيش الأبيض، لم يكن بوسع كاتب عبقري مثل ليف تولستوي أن يكتب رواية «الحرب والسلام» (1869) لو لم يكن مشاركاً في حرب القرم، ومع ذلك فقد استغرقت كتابة هذه الرواية الملحمية خمسة عشر عاماً. ولم تكن هذه الرواية عمله الأدبي الأول، بل سبقته ثلاثيته الشهيرة «الطفولة» 1852 «الصبا» 1854 «الشباب» 1857.

 

الشائعات تحاصر شولوخوف

 

كانت ثمة شائعات قوية تقول إن شولوخوف استولى في ظروف غامضة على مخطوطة رواية لضابط أبيض مجهول، أعدم رميا بالرصاص من قبل البلاشفة. دافع سيرافيموفيتش عن شولوخوف قائلا: «إن تلك الشائعات افتراءات حقيرة، تنم عن الحسد لعبقري شاب.

 

ستالين يعين شولوخوف مؤلفا للدون الهادئ

 

الشائعات التي حاصرت شولوخوف جعلت حياته جحيما. وفي عام 1929 ناشد شولوخوف السلطة السوفييتية وضع حد لتلك الشائعات، فتم بأمر من ستالين تشكيل لجنة للنظر في قضية انتحال شولوخوف لرواية «الدون الهادئ» كانت اللجنة بإشراف ماريا أوليانوفا (شقيقة لينين) وضمت كلاً من سيرافيموفيتش المقرب من الكرملين، وعدة أدباء بارزين. كان على شولوخوف أن يقدم للجنة على عجل مخطوطة الرواية، ولما كانت المخطوطة الأصلية بخط المؤلف الحقيقي، اضطر شولوخوف إلى استنساخ الرواية الأصلية، وقدم إلى اللجنة مخطوطة تبين أنها مستنسخة من قبل ثلاثة أشخاص ( شولوخوف، وزوجته ماريا، وشقيقة زوجته).

كانت المخطوطة الأصلية مكتوبة حسب الإملاء الروسي القديم، بينما المخطوطة المنسوخة أصبحت حسب الإملاء الجديد. وتشوبها أخطاء مضحكة في النقل، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وردت في النص الأصلي كلمة سبيكتر (الوان الطيف) ولم يفهم شولوخوف هذه الكلمة، وكتب بدلا منها (سكيبتر ) وهي كلمة لا معنى لها ومثل هذه الأخطاء في الاستنساخ كثيرة جداً يضيق المجال عن ذكرها. معظم أعضاء اللجنة كانت تنتابهم الشكوك، حتى أن عضو اللجنة الكسي تولستوي سافر إلى خارج موسكو وتغيّب عن الحضور. وكلما سأله أحد أفراد أسرته، «من هو مؤلف «الدون الهادئ» أجاب ضاحكا: بالطبع ليس ميشكا (اسم التدليل لميخائيل). البعض قال إن موقف ألكسي تولستوي ينم عن الحسد. والحقيقة أن شولوخوف كان في وضع لا يحسد عليه، فقد عاش في ظل الخوف الدائم من افتضاح أمره. وظل طوال حياته مهموما وكئيباً. وربما كان هذا الخوف هو الذي جعله سكيرا مدمنا طوال حياته.

لم تتمكن اللجنة من العمل بحرية بسبب الإيعاز الذي تلقته من جهة عليا باعتبار شولوخوف مؤلفا للرواية. وفي الوقت نفسه قالت جريدة «البرافدا» الناطقة بلسان الحزب الحاكم: «إن من يفتري على شولوخوف هو عدو للسلطة السوفييتية». وكان ذلك إنذارا لكل من لم يقتنع بشولوخوف مؤلفا للدون الهادئ. وسكت المشككون. تحاشيا لمحاكمتهم كأعداء للنظام القائم، وفق المادة (58) من القانون الجنائي السوفييتي. وهي المادة التي تنص على الحكم بعشر سنوات سجن لكل من يعادي السلطة السوفييتية وسكت المشككون، ولو إلى حين.

كتبت المجلدات الثلاثة الأولى من الرواية خلال حوالي ثلاث سنوات، أي أن كتابة كل مجلد مؤلف من (500) صفحة استغرقت حوالي سنة واحدة، في حين تأخر نشر المجلد الرابع والأخير أكثر من عشر سنوات، لأن بعض الخطوط السردية لم تكن مكتملة، حار فيها شولوخوف، ولم يعرف ماذا يفعل بها فتركها. وقام (الكتّاب الأشباح) بإقحام شخصيات جديدة إيجابية بلشفية من الجيش الأحمر في هذا الجزء. وفي الطبعات العديدة اللاحقة جرى تمزيق الرواية و(تنظيفها) بلا رحمة من أجل تغيير اتجاهها السياسي، وفقا لمتطلبات ذلك الوقت، إضافة إلى ملحق تحت عنوان «ممثلي الشعب عند ستالين» لكن هذا لم يؤد إلا إلى تفاقم التناقضات، وظهور ثغرات وتنافر في سياق الرواية. وبدت هذه الإضافات مثل الدمامل على الوجه.

 

في الطريق إلى حل لغز «الدون الهادئ»

 

أثيرت قضية انتحال شولوخوف لرواية الدون الهادئ مجددا في السبعينيات من القرن العشرين، لكن هذه المرة في فرنسا. ففي عام 1974 صدر في باريس كتاب للباحثة الروسية أيرينا توماشيفسكايا بعنوان «لغز الدون الهادئ». وقد كتب ألكسندر سولجنيتسين مقدمة ضافية لهذا الكتاب يقول فيها: «كتبت رواية الدون الهادئ بقوة فنية لا يمكن الوصول إليها، إلا بعد تجارب عديدة لكاتب متمرس، له خبرة طويلة في الكتابة السردية. وخلال السنوات الخمس والأربعين اللاحقة، لم يستطع شولوخوف أن يكرر، لا هذا المستوى الفني العالي، ولا هذه الوتيرة السريعة».

أثبتت الباحثة من خلال تحليل ومقارنة النص المنشور للرواية عام 1928 بنصوص طبعاتها اللاحقة ـ وجود تباين كبير يشير إلى تعرض النص الأصلي إلى التحريف والتشويه والحذف والإضافة، وظهور فجوات واضحة لم تكن موجودة من قبل، ما أدى إلى تدمير الرواية وتقطيع أوصالها.. وتوصلت الباحثة إلى استنتاج مفاده، أن النص الأصلي للرواية يعود إلى الكاتب القوزاقي فيودور كريوكوف. وكان سولجنتسين أيضا على قناعة راسخة بأن « الدون الهادئ» هي من تأليف كريوكوف. وبلغ من إعجاب سولجنتسين بهذا الكاتب الفذ، أن جعله واحداً من أبطال رواية «الدائرة الحمراء». وتحدث عنه أيضا في رواية «أرخبيل غولاغ». وقد أيد الباحث روي ميدفيديف في كتابه المعنون «سيرة ميخائيل شولوخوف» الصادر في باريس عام 1975 والمترجم إلى اللغة الفرنسية، تحت عنوان «إلى أين يجري الدون الهادئ» ما ذهبت إليه الباحثة توموشيفسكايا. وقال ميدفيديف: «إن ثمة تناقضا صارخا بين المستوى الفني والفلسفي للدون الهادئ، والأعمال الأدبية الأخرى المنسوبة إلى شولوخوف».

بعد تفكك الاتحاد السوفييتي فتح المجال واسعا أمام الباحثين للكشف عن كل ما هو مستور ومسكوت عنه، حيث أثبتت الدراسات التحليلية اللاحقة لعدد كبير من خيرة الباحثين الروس، أن «الدون الهادئ» هي رواية بيضاء حتى العظم، وكتبت من قبل كاتب أبيض هو فيودور كريوكوف (1870-1920). كما تبين لاحقاً أن أعمال شولوخوف الأخرى «الأرض العذراء» و«قاتلوا من أجل الوطن» و « مصير إنسان» هي من تأليف «الكتّاب الأشباح ».