22 ديسمبر، 2024 10:22 م

نهارٌ درويشيٌّ مقاومٌ للصدأ !

نهارٌ درويشيٌّ مقاومٌ للصدأ !

قضيتُ يوماً فريداً في متابعة قصائد بصوت الشاعر البارع محمّود درويش ( ١٩٤٢م ـ ٢٠٠٨م ) على قناة اليوتيوب.
جذبني صوته الهادر كشلالٍ مع معزوفاتٍ موسيقيةٍ عذبةٍ.
ابتدأتُ النهار معه بقصيدة (لا شيء يعجبني)، وانتهيتُ بقصيدته الخالدة (على هذه الأرض ما يستحق الحياة).
صُوته الموسيقي الأخاذ يمنحك العافية، ويحلّق بكَ إلى السماء البعيدة.
مضيتُ مع درويش في أُنشودته المبشّرة بالأمل، والداعية إلى التماس الحياة في أبسط مفرداتها :
(علَى هَذِهِ الأَرْض مَا يَسْتَحِقُّ الحَياةْ
/تَرَدُّدُ إبريلَ/ رَائِحَةُ الخُبْزِ فِي الفجْرِ/ تعويذةُ امْرأَةٍ للرِّجالِ/ كِتَابَاتُ أَسْخِيْلِيوس/ أوَّلُ
الحُبّ/عشبٌ عَلَى حجرٍ/ أُمَّهاتٌ يقِفْنَ عَلَى خَيْطِ نايٍ/ وخوفُ الغُزَاةِ مِنَ الذِّكْرياتْ
/عَلَى هَذِهِ الأرْض ما يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ
/نِهَايات أَيلُولَ /سَيِّدَةٌ تترُكُ الأَرْبَعِينَ بِكَامِلِ مشْمِشِهَا /ساعَات الشَّمْسِ فِي السَّجْنِ/غَيْمٌ يُقَلِّدُ سِرْباً مِنَ الكَائِنَاتِ /هُتَافَاتُ شَعْبٍ لِمَنْ يَصْعَدُونَ إلى حَتْفِهِمْ بَاسِمينَ/وَخَوْفُ الطُّغَاةِ مِنَ الأُغْنِيَاتْ/
عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ/
عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ الأُرْضِ/ أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ/ كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين /صَارَتْ تُسَمَّى
فلسْطِين/ سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ).
بحثتُ في أوراقي القديمة عن شيءٍ ما يليق بهذه المناسبة (احتفائي بمحمّود درويش)، وجدتُ توثيقاً بخط يدي لحوارٍ إذاعيّ، كنتُ قد سمعته بعد منتصف الليل بساعةٍ في أول شهر آيار سنة ١٩٩٩ من إذاعة (صوت العرب) من القاهرة في برنامج (حديث الذكريات)، وهو حوارٌ قديمٌ مع شاعرٍ بارعٍ آخر هو نزار قبّاني (١٩٢٣م ـ ١٩٩٨م).
أُجري الحوار منتصف الثمانينيات، ومما قاله قبّاني : إنَّ أيّ بيتٍ شعريّ لا أجد فيه جديداً أشطبه، ولا أحفظ شعريّ؛ لأنَّ هذا معناه أنّي وقفتُ على الأطلال.
وأضاف : إنَّ قراءة الشاعر هي نصف شعره وأنَّ الشاعر الذي لا يجيد قراءة شعره يجب عليه أن يعطيه لغيره ليقرأه، كما كان يفعل الشاعر أحمَّد شوقي الذي كان لا يجيد قراءة شعره، فيعطيه للشاعر كامل الشناوي ليقرأه.
اكتشف نزار قبّاني أنَّه حتى الذين يشتمونه هم أكثر الناس حفظاً لشعره !
ومما قاله : أحبُّ العواصف، ولا أحبُّ الحياد !
يرى قبّاني أنَّ الشاعر يجب أن يصدم القارىء وحين سأله المُحاوِرعن الشعراء الذين توقف عندهم، وصدموه قال : توقفتُ، وصُدمتُ
بالشاعرين رامبو، ومحمّود درويش.
اللافت أنَّ كلا الشاعرين درويش وقبّاني تميّزا بتناولهما لموضوعة الحب بشكل أساسيّ مع اختلاف الرؤيا، فضلاً عن اشتراكهما بروعة الإلقاء.
وأعود إلى درويشي (محمّود درويش) الشاعر الذي عبَّر عن المرأة، والأرض، والقضايا الكبرى للإنسان أروع تعبير برؤيا فلسفية عميقة .
لقد تناول المسلسل السوري (في حضرة الغياب) سيرة الشاعر، وقد عُرض في شهر رمضان سنة ٢٠١١م، وأثار وقتها موجةً من الاحتجاجات، والاعتراضات وقد كتبه الكاتب حسن م. يوسف وأخرجه نجدة إسماعيل أنزور، ومثله منتج العمل الممثل السوري فراس إبراهيم وسلاف فواخرجي، وكان من بين الاعتراضات أنَّ المسلسل لم يُظهر شخصية الشاعر محمود درويش الحالم الرومانسي بالشكل المطلوب، ولم يكن الممثل متقناً لدوره خاصةً في الإلقاء ومخارج الحروف فضلاً عن الأخطاء النحوية، مع أنَّه جعلنا نعايش الأجواء التي عاشها الشاعر الفذ من انتمائه إلى الحزب الشيوعي، ثمَّ تبنيه الاتجاه القومي الذي عُرف به،إلى خطابه الإنساني.
لقد كنّا في مرحلة الدراسة المتوسطة محظوظين حقاً بمطالبتنا بحفظ بعض مقاطع من قصيدته (بطاقة هوية) المعروفة باسم (سجّل أنا عربيّ) فنتجاوز المقطع المطلوب، ونحفظ مقاطع غير مطلوبة !
(سجّل/ أنا عربيّ/ أنا اسمٌ بلا لقبِ/ صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها/ يعيشُ بفورةِ الغضبِ/جذوري
/قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ/ وقبلَ تفتّحِ الحقبِ
/وقبلَ السّروِ والزيتونِ/ وقبلَ ترعرعِ العشبِ
/أبي.. من أسرةِ المحراثِ/ لا من سادةٍ نجبِ
/وجدّي كانَ فلاحاً /بلا حسبٍ.. ولا نسبِ!
/يعلّمني شموخَ الشمسِ قبلَ قراءةِ الكتبِ/ وبيتي كوخُ ناطورٍ/ منَ الأعوادِ والقصبِ /فهل ترضيكَ منزلتي؟ / أنا اسمٌ بلا لقبِ)
مصادفةٌ جميلةٌ أن تقودك (الظاهرة الدرويشية) إلى التعرف على عازفٍ وموسيقارٍ ماهرٍ مغرمٍ بمحمّود درويش هو مارسيل خليفة ، وجد ضالته اللحنية في شعره الإنساني الشفيف ، فلَّحن له قصائد أبرزها قصيدة (أحنُّ إلى خبز أمّي).
شكراً محمّود درويش فقد أعطيتني الكثير من الأمل في شعرك المقاوم للصدأ، وكنتُ فرحاً معك بشيءٍ ما خفيّ في قصيدتك ( فرحاً بشيءٍ ما) أحتضن الصباح بقوة الانشاد، وأُردد معك:
(ما لم يُغنَّ الآنَ في هذا الصباح /فلن يُغنّى..
/مَنْ لا يُحبّ الآنَ في هذا الصباح/ فلن يُحبّ) !