23 ديسمبر، 2024 3:43 م

نمو المعرفة وانهيار اليقينيات

نمو المعرفة وانهيار اليقينيات

هدر الفكر من خلال مختلف الوان وآليات الحجر على العقول، هو ما يؤول مباشرة الى هدر الاقتدار المعرفي الذي أصبح القوة الاساس في تحديد مكانة المجتمعات وحيويتها على الساحة الدولية. كل مشروع النهضة الغربي يتلخص سواء على مستوى الفكر أو التقنية وانتاجها في بناء عقل معرفي كبير مكن ، وما يزال ، الغرب من السيطرة على الذات والكون في آن معا، وصولا الى صناعتهما. بالتالي فالحجر على العقول، ليس مجرد قمع للحريات قابل للأخذ والرد، والتبرير بمختلف الظروف الطارئة، بل هو قضاء على قوة السيطرة على الذات والواقع والمصير، وصولا الى صناعته. 
هناك صفتان تميزان عالمنا الراهن هما :
أولا ـ التسارع
كل شيء يتسارع سواء على مستوى التحولات السياسية والاقتصادية، أم على مستوى التطور العلمي والتقني. لا شيء في السياسة والاقتصاد والاجتماع يبقى على حاله. كما أن عمر التقنيات في تناقص مستمر، فلا تنشأ تقنية وتنزل الاسواق ، إلا وتكون التقنية التي تتجاوزها أو تنقضها كي ترثها أصبحت جاهزة في المختبرات أو ورش الأعمال والمصانع. ذلك هو شأن تسارع نمو المعرفة البشرية. إننا تجاوزنا مسألة التراكم البطيء والمستمر، كي ندخل في عقد الثورات بل الطفرات في كم المعلومات ونوعها ، ومناحيها المختلفة.
ثانيا ـ انعدام التأكد
السمة الثانية المميزة لعصرنا الراهن. لقد مضى عصر اليقينيات الثابتة في مجالات الحياة والاجتماع والعلم. كل شيء أصبح قابلا للتحول والتبدل في مفاجآت متلاحقة، كما تشهد عليه مختلف الحوادث على الساحة الكونية. لم تعد هناك ضمانة لشيء أو لإنسان ، أو حتى لنظام سياسي أو اجتماعي أو سواه. أكثر الوقائع والحالات ذات الثبات والرسوخ الظاهريين تتحول وتنقلب من حيث لا نتوقع.
إزاء التسارع وانعدام التأكد يبقى أمران مضمونان هما اليقين الإيماني بالله سبحانه وتعالى، والاقتدار المعرفي. فقط المعرفة وبناء الاقتدار المعرفي هما الضمانة للحفاظ على المكانة ولعب الدور راهنا ومستقبلا ..يستوي في ذلك الصعيد الفردي كما الجماعي والمجتمعي. فقط قوة المعرفة وجدارة المعرفة تشكلان بطاقة الدخول المقبولة الى ساحة التنافس المحتدم عالميا ، والسلاح الفعال لخوض معركته .
قوة المعرفة وجدارتها ، بدورهما ، متسارعتان في تحولاتهما ونموهما؛ اذ هما ابعد ما يكون عن الثباتية. فلم يعد هناك إعداد معرفي مكتمل وناجز، بل جولات متتالية متصاعدة من التطوير والتحول يكادان يجعلان السباق عسيرا، والمنخرط فيه حالة لهاث دائم للحاق بقطار المعرفة المتسارع . ذهب الى غير رجعة الجواب الواحد الصحيح في عصر طوفان الأسئلة المتزايدة جدا وجرأة وتحديا للثوابت ، بل ونقضا لها. معهما ذهب بالتالي عصر الاستنساخ المعرفي للقديم، في طبعات متكررة . 
كل تقصير عن اللحاق بقطار الاقتدار المعرفي وتحولاته ، وطوفان اسئلته الناسفة للثوابت والعاصفة بالحدود ، لا يعدو كونه بطاقة ترشيح لعضوية المستغنى عنهم ، مجتمعات أو أفرادا. من ذلك تتجلى، ملامح خطورة هدر الفكر على اختلاف الوانه على صعيد : الثقافة والتقنية والعلوم والآداب والفنون، واساليب التدبير والتسيير. هدر الفكر هو ببساطة هدر فرص بناء الكيان ونمائه، وهدر المكانة المستقبلية ، اضافة الى كونه دخولا في حالة انعدام المناعة والحصانة.