23 ديسمبر، 2024 9:09 ص

نكوص الفكر العربي

نكوص الفكر العربي

يؤكد بعض الكتاب والمفكرين ان عجز القيادة السياسية وشيخوختها في العالم العربي هو من العوامل الرئيسة للثورات العربية ، او ما اصطلح عليه بالربيع العربي ، حيث لم يكن الرئيس حسني مبارك مثلا قائدا يتمتع بالكاريزما اللازمة لتحشيد الجماهير وقيادتها . وهذا ينطبق على بقية الرؤساء العرب ايضا
كما يرتبط عجز القيادة بنقص الشرعية ، لكونهم جاءوا بطرق غير ديموقراطية
واذا كان هذا صحيحا وهو فعلا ، فالصحيح ايضا ان هناك فراغ فكري وعقائدي ادى الى ظهور الاصوليات الاسلامية والسلفيات ، التي تمددت لملء هذا الفراغ

وبنفس الوقت الذي انتشرت فيه الافكار الاسلاموية ، ذهب بريقها وبان قصورها في نفس الاوساط ، بعدما تبين عجزها الواضح عن ايجاد الحلول المنطقية للواقع المعاش ، وبقيت الاطروحات نظرية وطوباوية غير قابلة للتحقيق

وكل هذا يدل على أننا بتنا نواجه أزمة حقيقية في الفكر والعقيدة، فالفكر بالإجمال يبقى الأساس في نشوء العقيدة السياسية لتصبح مبادئ قابلة للتطبيق والعمل بموجبها لتطوير واقعنا المعاش باساليب علمية قابلة للتطبيق وهي بهذه الصورة تنشئ وظيفة اجتماعية للمثقف ، وبذلك فان وظيفة المثقف لا تكون فكرية أو معرفية مجردة وإنما اجتماعية ، على وفق نظرية المثقف العضوي لغرامشي ، اي يكون داخل مجتمعه ، ليعمل على تفعيل وتعديل مسار الوعي في المجتمع ، عن طريق بلورة عقيدة اجتماعية سياسية حديثة تستمد جذورها من التراث الثقافي الفلسفي الغني ، وترتبط بالحداثة لتواكب النهضة العالمية الكبرى التي نشهدها ولا تكون متخلفة عنها باي شكل غير علمي اوغير قابل للتطبيق

وياتي ذلك بالاشتغال على القضايا الاجتماعية العامة والمشاركة في تفاعل الرأي والموقف، والعمل لمصلحة الجماهير المهمَّشة والفقيرة، والنضال ضد السلطة المستبدة التي تعتمد مبدأ اللامساواة والقمع

المفكرون والمثقفون في الوطن العربي انصرفوا في ما مضى إلى النضال من أجل دعم حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار في بلادنا العربية وخصوصا في مصر وسوريا والعراق، ثم تحول الفكر الجمعي العربي هذا إلى عقيدة قومية اشتراكية لمواجهة الحاجات الاساسية للشعب ، في محاولة تحقيق مبدأ المساواة النسبية بين طبقات المجتمع ، الا اننا وجدنا بعد حين توظيف الفكر التثقيفي في خدمة الدكتاتوريات العربية ، التي لاقت قبولا عند كثير من المثقفين طمعا في الجاه والثروة ، او خوفا من الحاكم او كلاهما ، وهذا ما اضعف الالتزام بالفكر الشعبي الثوري ، او نبذه
وقد ساعد على هذا النكوص الحرب على البيئة الفكرية والنفسية للعقيدة الوطنية العربية ، تمهيدا لاحلال عقائد دينية و طائفية ، لتمزيق النسيج الاجتماع العربي تحت مسميات اسلاموية براقة تخفي ورائها مخططات هادمة للانظمة السياسية العربية ، خشية تطورها الى انظمة حديثة ، فتم استغلال الاختلافات الفقهية والمذهبية الاسلامية لتحقيق هذا الهدف ، وقد ساعد على ذلك النزعة الانانية وحب السيطرة والقيادة لدى بعض المثقفين ووجهاء المجتمع ، مما تسبب في الاقتتال الداخلي والحروب الاهلية بالانابة عن مشاريع دولية واقليمية خبيثة ، وهكذا انحرف الفكر العربي وتوزع المثقفون بين التنظيمات الطائفية بدوافع مصلحية ، او بدوافع فطرية لاشعورية نتيجة تغريبهم ، اوشعورهم بالخطر وضرورة الالتجاء الى الطائفة او العشيرة ، وقسما منهم اخذتهم العزة بالاثم فتمادى في تشويه صورة المثقف الوطني ، واخذوا يروجون للطائفة تحت شعارات اسلاموية مخادعة او بمسميات المقاومة الاسلامية ، او الدولة الاسلامية المزعومة ، ومن ثم الوقوع في شرك الغلو بالدين والتمسك بالشكليات على حساب القيم الانسانية و الوطنية العليا

ان الواجب الحضاري والوطني يدعونا اليوم الى اسناد الشباب الثائر الذي اعاد الينا الوعي الجمعي الوطني ، ونبذ الافكار العنصرية و الطائفية ، وقد تفوقوا بوعيهم العالي هذا على كثير من ادعياء الثقافة ، مما يتوجب على الجميع التماهي معهم واشاعة الروح الوطنية ، ومراجعة النفس مراجعة شاملة والقبول بالنقد الذاتي لنبذ الافكار الرجعية الضيقة ، واعادة تفعيل القيم الوطنية محل القيم الطائفية المتخلفة التي حلت محلها ، والعمل على تجديد المفاهيم الوطنية خارج الاطر الدينية او الطائفية ، والمزاوجة بين الحداثة والتراث القيمي الخالد ، لصياغة عقيدة تجمع ولاتفرق ، توحد ولا تشتت ، تستند على فكر ابداعي خلاق يبرز من رحم هذه الامة المعطاء . واشاعة الوعي الوطني والايمان بقدرة الانسان على الفعل الايجابي البناء بدل انتظار المخلص الذي لن ياتي ابدا.