نكران الذات طهارة معنوية للذات، وهنا لابد من توضيح ما المراد من الذات؟
وما المراد من الطهارة المعنوية؟
نعم، لا أختلف معك أيها القارئ اللبيب، أن المعنى العرفي واللغوي لنكران الذات مرتكز عند الكثير، ولكن هذا الفهم اﻹرتكازي لنكران الذات لا يمنع من التوسع في الفهم والإيضاح خصوصا أن المعاني الإرتكازية تكون إجمالية، وبطبيعة الحال إن اﻹجمال أدنى مرتبة من التفصيل والوضوح.
فإن كان المراد من الإجمال الغموض والإهمال فإن الوضوح أعلى مرتبة وأشرف منزلة،
وإن كان المراد من الإجمال العلم الإجمالي فإن العلم التفصيلي هو اﻷعلى واﻷرقى…
ونكرر السؤال اﻷول مرة أخرى:
ما المراد من الذات؟
وخير جواب عن هذا السؤال أتركه للسيد الشهيد محمد الصدر(قد) وبالتحديد في كتابه الرائع الذي طرح من خلاله نظريته في “حب الذات وتأثيره في السلوك الانساني” وهذا الكتاب كتبه السيد الشهيد محمد الصدر في نهاية عام 1964 أي عندما كان عمره الشريف أحدى وعشرين عاما.
وهذا الكتاب قد طبع بعد إستشهاده برعاية ولده البار السيد مقتدى الصدر..
حيث جاء في هذا الكتاب ما نصه:
(” الذات هي: كل ما لدى الانسان من نعمة الهية داخلية، وهي كل شيء في حياة الانسان، فمنها ينظر إلى الحياة، ومنها يعلم، ومنها يفهم، ومنها يتكلم، وعليها يعتمد في سائر سلوكه وتصرفاته، ومنها: يستمد وعيه وإدراكه للحقائق والوقائع، وكل ما يدور حوله من حوادث. فالذات هي المركز الرئيسي للانسان الحي.
ومن هنا كانت الذات مركز تفكير الانسان ومركز حبه، ومركز عاطفته، لا يمكن-بل مستحيل- ان يحيد بعاطفته عنها مقدار شعرة، فهو محب لكل خير لها ومبغض لكل شر ينالها، بل هو مبغض لكل احتمال شر ينالها، فهو يتجنب مكاره الحياة وصعوبات العيش وكل ما ينالها بسببه [من] مكروه؛ ﻷجل أن يدفع عنها أكبر مقدار من احتمال الضرر. فاحتمال الضرر-فضلا عن يقينه، وفضلا عن وجوده- منفر للنفس، مبعد لها، دافع للعقل بأن لا يصل نحوه وأن لا يتوجه إليه.
أما النفع بالنسبة إلى نفس الإنسان فهو كل شيء، فهو ما يريده الإنسان وماىيسعى إليه بعقله وتفكيره وإدراكه وإحساسه.
إذن، فكل ما في حياة الإنسان هو جر النفع إلى شخص نفسه ودفع المكاره عنها، ولا يستثنى من ذلك شيء، إنما تختلف مشخصات الخير ومشخصات الشر في نظر البشر. ومن هنا يختلف سلوكهم وتختلف عاداتهم وتختلف طرائقهم في الحياة ونظراتهم إلى الحياة، وإلى ما قبل الحياة وما بعد الحياة. “)إنتهى
ومن خلال هذا البيان الرائع الجميل الذي رسمته أنامل الشهيد محمد الصدر(قد) يتضح لنا أن الذات تشمل العقل والنفس والروح والقلب، فالذات معنى منتزع منها…
فالقلب هو سبب العواطف كالحب والبغض،
والنفس هي سبب الشهوات كالجوع والعطش،
والعقل هو القوة الدراكة للكليات النظرية والعملية.
فالذات هي كل ما لدى الانسان من نعمة الهية داخلية على حد تعبير الشهيد محمد الصدر…..
قلت في بداية البحث ان نكران الذات طهارة معنوية للذات، فما هي الطهارة المعنوية؟
هي طهارة الذات ونزاهتها من الدنس…
وبطبيعة الحال أن دنس الذات هو دنس معنوي، فللنفس دنسها، وللروح دنسها، وللقلب دنسه….
إن إزالة الدنس توجب طهارة ونزاهة، ونكران الذات هي ازالة دنس العجب ﻷن العجب يقابل نكران الذات..
وقبل الخوض في بعض تفاصيل نكران الذات ينبغي الآن تسليط الضوء على الطهارة المعنوية…
ﻷن الطهارة معنى يقابل الدنس والنجاسة.
إن معنى الطهارة هو إزالة الدنس، ومرة أخرى أترك الحديث للسيد الشهيد محمد الصدر(قد) لتسليط الضوء على الطهارة وأقسامها حيث جاء في كتابه ما وراء الفقه الجزء اﻷول القسم الاول ما نصه:
(“واذا حصل لدينا ان الطهارة هي النزاهة من الدنس، امكننا ان نجد لها مصاديق اخرى، غير ما قاله الفقهاء واللغويون معا، وتشترك كلها بنحو الاشتراك المعنوي تحت ذاك المعنى الجامع.
وتنقسم الطهارة الى اصناف متعددة، بانقسام الدنس الذي ترفعه وتقوم بالتنزيه عنه. وهذه الاصناف للادناس وان اختلفت في الحقيقة، الا انها ذات فهم معنوي واحد، ما دام الشعور بالدنس مشترك بينها جميعا.
على ان اختلاف الدنس في الحقائق، لا يعني اختلاف الطهارة في الحقيقة، لانها تعني معنى واحدا، وهو ارتفاع الدنس مهما كان جنسه. سواء فهمنا منها معنى عدميا وهو ارتفاع الدنس وانعدامه، او معنى وجوديا حاصلا بعد ذلك الانعدام. وهو الصحيح الموافق للارتكاز العرفي والعقلي معاً. فان النزاهة والنظافة ذات معنى مفهوم قائم بذاته، غير انه حاصل بسبب زوال الدنس وانعدامه.
ومعه فالاصناف المتعددة للطهارة، كما عبرنا، لا تعني اختلاف هذه الاصناف في الجنس والحقيقة، وانما هي تقسيمات جانبية مندرجة تحت حقيقة ومفهوم وجودي واحد، وهو النظافة والنزاهة. ولعلنا نستطيع ان نقسم الطهارة الى ثلاث تقسيمات رئيسية: سنجد ان بعضها ينقسم الى انقسامات اخرى:
اولا: الطهارة المادية وهي التي تكون بعد زوال الدنس المادي كالتراب والدهن.
ثانياً: الطهارة الحكمية، وهي المقابلة للدنس الحكمي، الذي هو الحدث والخبث في المفهوم الفقهي. وسيأتي مثاله.
ثالثاً: الطهارة المعنوية وهي المقابلة للدنس في النفس والقلب والروح.
وهنا ينبغي ان نلتفت الى ان الدال على وجود هذه الطهارات والادناس المقابلة لها، يختلف: فالدال على وجود الدنس المادي هو الحس. والدال على وجود الدنس الحكمي هو الشريعة، بعد ان قامت الحجة الشرعية الفقهية على صحته. والدال على وجود الدنس القلبي والنفسي هو العقل والوجدان، الامر الذي يدعمه البرهان في علمي الفلسفة والعرفان.
والدنس المادي يختلف باختلاف موارده. والمهم فقهياً، ان يكون دم الحيض والمني و البول والغائط منه. وزوالها شكل من اشكال الطهارة.
والدنس الحكمي انما سمي حكميا لانه انما كان دنسا بحكم الشارع المقدس، ولولاه لم يدرك العقل ولا الحس وجوده.
وهو ينقسم الى الخبث والحدث. فالخبث هو النجاسات العشر التي تطهر بصب الماء عليها عادة، والمدرجة في الفقه، ولا حاجة الى استيعابها هنا كالبول والميتة والدم.
والحدث هو ما سبّب الوضوء والغسل، يعني يجعل الفرد بحالة حكمية معينة من الدنس بحيث لا يجوز له الدخول في الصلاة ونحوها الا بعد الوضوء والغسل.
وينقسم الحدث الى: حدث اصغر وحدث اكبر. فموجب الوضوء هو الاصغر كالبول والغائط وموجب الغسل هو الاكبر كالجنابة والحيض. بقي الالماع هنا الى امرين:
الامر الاول: انه لا يراد بالدنس الحاصل في الحدثين الاكبر والاصغر، الدنس المادي، يعني تلوث الجسم بالبول او المني مثلا.
وهذا واضح بضرورة الفقه، لوضوح ان ازالة هذه الادناس لا تعني ازالة الحدث الناتج منها. اذن فالحدث دنس حكمي والطهارة الحاصلة مع ارتفاعه بالوضوء والغسل نزاهة حكمية.
وكذلك الامر في الدنس الحاصل بالخبث. فانه وان كان سببه هو الدنس المادي، يعني تلوث الجسم باحد النجاسات العشرة، الذي هو معنى ملاقات النجاسة باصطلاح الفقهاء.
الا ان الحكم مع ذلك لا يعود اليها بالمرة لعدة شواهد:
اولا: اشتراط الرطوبة في الملاقي. فلا يكون تلوث الجسم بعين النجاسة جافا موجبا للحكم بالنجاسة ولا وجوب التطهير. مع العلم ان الدنس المادي متحقق بهذا التلوث.
ثانياً: بقاء الحكم بالنجاسة حتى بعد زوال عينها، قبل التطهير، مع العلم ان الدنس المادي يكون قد زال بزوال العين.
ثالثاً: إشتراط التعدد في غسل بعض النجاسات، مع العلم ان الغسلة الواحدة المستوعبة، قد تكفي تماما في ازالة العين، او الدنس المادي. بل يميل الفقهاء عادة الى عدم احتساب الغسلة المزيلة بالمرة.
ينتج من ذلك انه مع وجود عين النجاسة، فان الدنس المادي موجود، الا ان الخبث الحكمي ليس هو ذلك بالتعيين، بل هو هنا شكلان من اشكال الدنس: مادي وحكمي. ولا يمكن ازالة الدنس الحكمي الا بعد زوال الدنس المادي.
الامر الثاني: الحدث دنس حكمي فقهيا الا انه في نفس الوقت له جنبة معنوية، لانه يعود الى دنس النفس وزواله يعود الى طهارتها.
ووجود مثل هذه الاحوال النفسية غير مربوط بالمباشرة بالخلاف الفقهي القائل: بان المطلوب في الطهارة كمقدمة للصلاة هو افعال الوضوء والغسل. او الحالة المعنوية الناتجة منها.
فان الصحيح فقهيا هو الاول الا انه لا ينفي وجود الحالة المعنوية وانما امر به باقتضاء وجودها. والذي يقال عادة في هذا الصدد: ان الوضوء والغسل ان كانا بالغين الى درجة القبول انتجا تلك الحالة. واما اذا كان لهما درجة الاجزاء فقط لم ينتجا تلك الحالة وان صحت الصلاة بهما. اذن تصبح الطهارة في مثل ذلك حكمية وليست معنوية. واما مع القبول فهي حكمية ومعنوية معا. “) إنتهى
وبعد هذا البيان المستفيض النافع والرائع للطهارة وأنواعها يتضح لنا أن طهارة الذات هي طهارة معنوية…
ونكران الذات هو طهارة معنوية للذات من الدنس المعنوي الذي هو العحب.
فنكران الذات لا يعني إتلاف الذات وإلغاء وجودها بل هو طهارة لها وتكامل ونفع حقيقي…
إن نكران الذات هو تطهير الذات من العجب الذي هو أحد مصاديق حجب الظلام…
فالذات لا يمكن أن تحلق في سماء النور إلا بعد أن تزول عنها حجب الظلام، وحجب الظلام هي أدناس معنوية، والعجب هو أحد هذه اﻷدناس.
وهنا أجدني مضطرا للعودة الى مزيد من تسليط الضوء على نكران الذات وأترك الحديث مجددا للشهيد المظلوم السيد محمد الصدر قدس الله نفسه الزكية حيث جاء في كتابه الثمين فقه اﻷخلاق الجزء الاول ما نصه:
(” يقابل العجب: نكران الذات.
وانقساماته أيضاً، كالعجب على ثلاثة اعتباراتٍ أو جهات:
الجهة الأولى: فيمن يحصل نكران الذات تجاهه. وهو أمران:
الأمر الأول: الله سبحانه وتعالى، حيث يشعر الفرد بعدم أهمية ذاته تجاه الله سبحانه وعظمته ورحمته.
الأمر الثاني: المخلوق، حيث يشعر الفرد بعدم أهمية ذاته تجاه من هو أبرز منه بدرجةٍ عالية، في المال تارةً، وفي السلطة أخرى، وفي الإيمان ثالثة، وفي العلم رابعة. وكلُّ ذلك حاصلٌ في مختلف الأفراد. غير أنَّ التواضع أو إنكار الذات تجاه الخلق، إن كان من أجل الخالق نفسه، كان هو المطلوب حقيقةً. وأما إنكار الذات تجاه المخلوق كما مثلنا لمجرد الشعور بأهمية الآخر، فهو من الضعة الذاتية أولاً، والشرك الخفيِّ ثانياً.
الجهة الثانية: فيما يحصل نكران الذات به. وهو أمور:
الأمر الأول: الذات نفسها. ومفهوم نكران الذات يعني ذلك لغةً وحقيقةً. وهو الشعور بتفاهتها أو زوالها تجاه من يشعر بأهميته وعظمته ممن عرفناه في الجهة الأولى.
الأمر الثاني: الصفات. كالعلم والكرم والشجاعة وغيرها، حيث يشعر الفرد بتفاهتها أو انعدامها تجاه الصفة المهمة لدى الغير، كعلم العلماء أو شجاعة الشجعان أو عظمة الله سبحانه، وهو الأهمّ.
الأمر الثالث: الأعمال. فإنَّ الفرد إما أن يشعر بتفاهة عمله تجاه عمل الآخرين، أو يشعر بعمق ذنبه، أو يشعر بتفاهة عمله تجاه استحقاق الغير، من الشكر على النعمة ونحوه. وهذا هو الموقف الأحسن تجاه الله سبحانه.
الجهة الثالثة: في أقسام نكران الذات من حيث الدرجات:
الدرجة الأولى: الشعور بقلة الأهمية.
الدرجة الثانية: الشعور بزوال الأهمية وعدمها إطلاقاً.
الدرجة الثالثة: الفناء في الغير فناءاً كاملاً، بحيث لا يكون له وجود استقلاليٌّ بالمرة. وهذا هو الموقف الذي يراه العارفون تجاه الله سبحانه وتعالى.
فإذا عرفنا هذه الإنقسامات لنكران الذات كانت الإحتمالات 3×3×2=18 احتمالاً، ونذكر فيما يلي بعض النماذج منها كأمثلة، وقد عرفنا أنه ليس كلُّ أنواع نكران الذات ذا فضلٍ حقيقيٍّ أو منتجٍ لنتيجةٍ أخرويةٍ صالحة، إلا ما كان تجاه الله سبحانه وأوليائه.
الأنموذج الأول: الشعور بتفاهة الحال والمال، في حالة الفقير الذي لا أمل له في المستقبل، تجاه ذوي المال والنفوذ.
الأنموذج الثاني: الشعور بتفاهة الحال والضعة تجاه السلطان وذوي السلطة في المجتمع. وخاصةً إذا كانت تحت تصرفه الفعلي، كالعامل لديه، أو المحجوز في سجونه.
الأنموذج الثالث: الشعور بتفاهة الإيمان والعمل الصالح، تجاه الإيمان والعمل الصالح الذي يتصف به المعصومون سلام الله عليهم.
الأنموذج الرابع: الشعور بتفاهة العمل الصالح تجاه الله سبحانه، بما له من استحقاقٍ كبيرٍ لشكر النعمة ودفع النقمة والبدء بالعطاء وغير ذلك.
الأنموذج الخامس: الشعور بالفناء التامِّ تجاه عظمة الله سبحانه وتعالى، من حيث العمل ومن حيث الذات والصفات كلِّها. “) إنتهى