هناك فهم خاطئ ومتوهم وغامض وناقص لمفهوم الحضارة في علوم الإنسانية والاجتماعية والآثار. كلمة الحضارة التي نرددها دائماً بين حين وآخر كمرادفة ربما لكلمة المدينة والمجتمعات المتقدمة في حياتنا العادية, فإننا يجب علينا تعريفها تعريفاً دقيقاً شاملاً في العلوم الأنثروبولوجيا (علم دراسة الإنسان) والتاريخ, وعندما يأتي الأمر لدراسة مجتمعات البشرية التي أما وصلت أو عجزت عن الوصول إلى تلك المبتغى. يساعدنا مفهوم الحضارة على تقييم الدول والمجتمعات مع معايير علمية لمعرفة مدى تطورها من قاع القواعد حتى أعلى المراتب.
مصطلح الحضارة في علم الأنثروبولوجيا يمكن أن يُشبه بمصطلح الإنسان في علم الأحياء. إلا أن الحضارة تتكلم عن المجتمعات بدلاً من الإنسان, ونواة الحضارة هي العائلة بينما نواة الإنسان مكون من الخلية. لذلك لتعريف الحضارة وتحديد خصائصها أهمية كبيرة جداً (كأهمية تعريف خلية في الأحياء) في علوم الاجتماعية التي تدرس المجتمعات والحضارات العريقة القديمة والمعقدة الحديثة.
على الرغم من أن تعريف الحضارة في تلك العلوم خاطئة وناقصة, إلا أننا هنا نقوم فقط بنقد خصائص الحضارة التي وضعها علماء الأنثروبلوجيا والتي أثبتت نظرياً أو عملياً عدم إنسجامها مع الأدلة القديمة والحديثة. قام المؤرخون بتحديد عدة مزايا للحضارة من أجل تمييزها عن المجتمع البشري عادي. نبدأ من مزية الأكثر ضعفاً وعرضةً للتهميش نحو المزايا التي تبدو وكأنها توصف الحضارة ولكنها في الأساس تقصر في شمل جميع الحضارات تحتها.
أولاً – يتواجد في جميع الحضارات فنٌ من نوع ما: واضع هذه المزية هو شخص قصير البصر وطويل اللسان. حيث رأى مجتمعه الحالي الذي لا يكاد يخلو من الفنون البشرية من الرسم والرقص والعمران, ثم قرأ التاريخ بما يكفي ليفهم أن الحضارات السابقة المدونة كانت لديها نوع من الفن كالمنحوتات الإغريقية والأشعار العربية والروايات البابلية, حتى وصل به عقله إلى وضع الفن كمعيار أساسي لأي حضارة بشرية وجدت على الأرض. ونرد على هذا الشخص بالقول إن أسس الحضارة لا يقتضي عليها تواجد الفن فيها وعند أهلها. يمكنك إزالة جميع الفنون البشرية من بداية التاريخ حتى اليوم فلن ترى أي تأثير على تركيبة الحضارة وتقدمها وتوسعها. وجدت الفنون لكي يريح العقول المختلة الذين يتألمون في الحياة دون القدرة على تغيير حالهم الواقعي فيلجأون إلى الخيال وتحوير الحقيقة. وربما قامت تلك الفنون بالتلاعب في بعض ردات الفعل البشرية على مر التاريخ مثل قيام القبيلة بالغزو أو بأخذ الإنتقام من قبيلة أخرى بسبب الشعر الذي حفز عواطفهم, أو بناء الشخص القارئ للقصص حياته على نحو تلك القصة, أو سد المعماري طريق الناس بسبب عمرانه التي تزين المدينة. إلا أنها جميعاً – من النحت والرسم حتى الرقص والعمران – لم تضف أي قيمة حقيقة مادية أو لم تأتي بتغيير مفيد للفرد ناهيك عن الحضارة.
ثانياً – جميع الحضارات لديها نوع من الكتابة: هذه الخاصية للحضارة أصبحت قديمة وغير معترفة بالأصل بعد اكتشاف حضارة الإنكا في أمريكا الجنوبية التي لم تلجأ إلى الكتابة إطلاقاً. لكن لا تزال الأغلبية تظن بأن بدون الكتابة اليوم, تصبح الحضارة بلا قيمة ومعنى ولا ذات عمر مديد ولا يمكنها حتى إيصال المعلومات الهامة إلى الجيل القادم. أرد عليهم بالقول إن الكتابة أصبحت منتهية الصلاحية في عصرنا التكنولوجي التي تبدو في سطحها على إنها أضافت على قيمة الكتابة ولكنها في الحقيقة تتجه نحو الأعتماد على الصوت والصورة بدلاً من الكتابة لنقل الأفكار والتجارب والأحداث. بالإضافة إلى ذلك, إن الكتابة لم تظهر من طبيعة الإنسان الوراثية, فلا يمكن لأحد أن يجيد الكتابة كما يجيد المشي عند النمو, بهذا يمكننا المجادلة نظرياً بالقول إنها لن تظهر في جميع الحضارات التي وجدت غرضاً آخر لإيصال وحفظ الأفكار. إذاً, الحضارة لا تشترط عليها إطلاقاً تواجد الكتابة كعنصر أساسي في نقل معلوماتها زمانياً إلى الجيل اللاحق ومكانياً إلى الأشخاص البعيدين.
ليس من ضروري للحضارة أن تكتب معلوماتها في شيء من البيئة لغرض تفادي مشكلة النسيان أو عدم تحمل عقل الإنسان لخزن معلومات هائلة. يمكن للحضارة أن يخصص بعض الناس للحفظ ويجعل كل واحد منهم يحفظ ما تيسر من المعلومات ومن ثم الآخر ومن ثم الآخر. فبذلك يكون الحضارة قد حفظ معلوماته في عقول أهله من دون اللجوء إلى الكتابة. ولكن الكتابة هو شيء أيسر لأعضاء الحضارة ويقدر أن تجنب كثير من الطاقة والتعب المصروفة لغرض خزن المعلومات.
ثالثاً – كل الحضارات لديها دين معين: ربما تطورت تلك الفكرة قبل القرن العشرين التي برزت فيها ومن بعدها حضارات علمانية لا تنتمي لأي دين بالرغم من كون أغلبية أفرادها في دين معين. والحضارات الأخرى القديمة لم تكن لديها أي شيء تقدسها, ولكن لا يمكننا علمياً الحكم عليهم بمجتمع غير متحضر, لأنهم تواجدوا ازدهروا وتطوروا. الأديان باستطاعتها أن تساعد في خلق أهداف للحضارة وحوافز لأهلها وبنايات في أرضها إلا أنها لا تعد ركيزة من ركائز الحضارة.
رابعاً – تتمتع الحضارات بنظام سياسي: ليس كل الحضارات لديها أنظمة سياسية تفرض عليها قوانين وتشريعات ينظمها ويشكل مجتمعها, ولا هي ضرورية في إدارة يوميات الأفراد فيها. هناك بعض من أساتذة علوم السياسة يؤمنون بأن المجتمع لا يُنظم إلا بوجود قائد أو قيادة مركزية تقودها نحو الأمام وتمنع رجوعها نحو الوراء. أقول لهم إن تفكيركم لا عيب فيه ولكن هذا لا يجعلنا نأخذ السياسة كنظام أساسي يتوجب تواجدها في جميع الحضارات. كذلك بعض العلماء والمؤرخين المتحزبين والمتعاطفين مع جهات سياسية معينة يأخذون وجود نظام السياسي في الحضارات كشيء ممنوح معترف لا بد منه. وذلك لأنهم يخافون من المتطرفين اليساريين الذين يؤمنون بنظرية اللاسلطوية ويريدون تشييعها. نقول إن الحق أجدر أن يقال إن النظام السياسي والقيادة والطبقة السياسية بأكملها يمكن أن تلغى من أي حضارة مع بقاء تركيبة الحضارة وأسسها ثابتة وممتدة. ليست هناك ضرورة في وجود وعيٌ يرشد المجتمع نحو طريق ما, وينظم ديناميتها, ويتحكم بردات فعلها. بعد اعترافنا بعدم ضرورة وجود نظام السياسي في خصائص الحضارة, يجدر بنا القول إن وجودها يضفي أفضلية للحضارة ويسرع من نموها ويصقل تركيبتها.
خامساً – مجتمعات الحضارة تكون طبقية: قليل من الأشخاص يظنون بأن طبقات الاجتماعية بأنواعها من طبقة الأغنياء وطبقة الحاكمة وطبقة الفقراء وطبقة العمال وغيرها من طبقات هي من اختراع البشر ليست ضرورية لوجود الحضارة بنفسها. ويقال نفس الكلام على تقسيم العمل, فهو من صنع الإنسان لترتيب مجتمعه ومنح كل فرد فيه لوناً وظيفياً واحداً. يمكن لأي إنسان القيام بأي عمل آخر أو التدخل في أي مجال يحبه ويرغب فيه وكذلك ترك ما قيده عليه دراسته ليختص في مجال وظيفي ضيق؛ التصلب الوظيفي هو حالة مخترعة وهمية ليس مخلوقاً من جوهر طبيعة الإنسان. يستطيع العالم الواضع لهذه الخاصية مجادلة إذا ما كان ظهور الطبقات الأجتماعية المعقدة شيءٌ حتمي في مسار تطور الحضارات, لكنه لا يستطيع أن يفرض تلك الخاصية على الحضارات بأكملها. تصور بداية الحضارة في ذهنك, يمكنك بالفعل رؤية الإنسان البدائي يقوم بعدة مهام مختلفة في يومه, فتارة يعمل في الفلاحة, وتارة أخرى في تربية الحيوانات, وتارة في الصيد, وتارة في الحماية والدفاع عن النفس. الإنسان البدائي اليوم يمكن أن يعتبر إماماً وطبيباً وفيلسوفاً وجندياً وتاجراً وفلاحاً وفناناً ومهندساً, على العكس الإنسان المعاصر الذي يتخذ وظيفة واحدة طيلة حياته ويتمسك بها ويخاف من الخروج منها نحو المجالات الأخرى لأنه يظن بعدم انتمائه إلى تلك العلوم أو الفنون. فالعالم يخاف من أن يصبح فناناً والفنان يخاف من أن يصبح عالماً. تلك القيود المتوهمة هدم حياة العديدين من الأشخاص الموهوبين في عدة مجالات حياتية.
يجب الإعتراف في الأخير إن هؤلاء العلماء قد أجادوا بعضاً من القواعد التي وضعوها لتعريف الحضارة. مثلاً قولهم بأن الحضارة يجب أن تتمتع بأعداد وكثافة سكان عالية, فلا يمكن لشخص أو شخصين أو حتى عائلة من تكوين حضارة مخصصة لهم. وكذلك بقولهم إن كل حضارة لديها نوع من العمران والآثار التي صنعتها مجتمعاتها بالتلاعب في مواد البيئة, وهذه البنايات قد تكون ملاجئ أو مخازن أو مكان عمل.
أقول في الخاتمة إن عدم تعريف الحضارة تعريفاً دقيقاً وشاملاً هو المسبب الرئيسي في تضمين تلك الخصائص التي تنطبق على بعض من الحضارات أو أغلبيتها لكنها تعجز عن وصف الحضارة بمفهوم كامل وعلمي. لو بدأنا من البداية اختزلنا جميع تلك الخصائص المذكورة من الحضارة البشرية, لما رأينا أي نقص في بنيتها وتقدمها وأفعال مجتمعاتها.