22 ديسمبر، 2024 11:37 م

(هيمنة الأيديولوجيا على نقد الأنا للآخر)
( لقد آن الأوان لأن نبحث في العيوب النسقية للشخصية العربية المتشعرنة،
والتي يحملها ديوان العرب وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة) (*)
عبد الله الغذّامي

لا شك ان هناك مجموعة منطلقات وموجهات تحرك الباحث والقارئ والناقد والمفكر أياً كان، وتدفعه نحو ما يريد، وتتنوع هذه الدوافع وتتعدد حسب طبيعة التفكير والمحيط والأيدلوجيا والمرجعيات الفكرية والثقافية التي تغذي ذلك الشخص، ومنها ما هو شعوري واضح للعيان يقره بلسانه، ومنها ما هو لا شعوري مخبوء تحت طيلسانه، نكتشفه عن طريق القراءة الفاحصة والتحليل والنقد الثقافي لذلك الخطاب المعلن لنكشف المضمر منه، وفق منهج علمي موضوعي يلتزم الحياد والمصداقية في ممارسة النقد والقراءة والتحليل.
محركات ودوافع التفكير والتبني الثقافي والفكري والمعرفي كثيرة، كما قلنا، وهي تختلف من مفكر الى آخر، وحسب الزمان والمكان، وعلى هذا الأساس فهي أيضاً بالنتيجة تكون سلطة تمارس تأثيرها وسحرها على عقل ذلك المفكر، من سياسة ودين وثقافة ومجتمع وأيدلوجيا وتاريخ، كل هذه المحركات تترك أثرها على المنتج الفكري والثقافي لذلك المفكر في توجهه نحو ما يريد وما يسعى اليه، وبالتالي تتضح من خلال خطاب وكتابات ومنتج ذلك المفكر أو الأديب أو العالم أو الفيلسوف أو الفقيه، تتضح معالم وأهداف وطبيعة تفكيره ونمطها ونسقها المعلن أو المضمر، وعند ذلك نستطيع أن نعلن صراحة بأن منهج وتفكير وثقافة ذلك الشخص، اسلامي أو علماني الهوى، ماركسي أو قومي التوجه، أيدلوجي أو أبستملوجي وعلمي في طرحه.
وصراحة تشكل هذه المحركات موجهات فكرية وثقافية تدفع بالمرء الوجهة التي يريد، والنتيجة التي ينشدها، والخطاب أو المنتج الفكري والثقافي لهو الكفيل الحقيقي بكشف ما يريده المرء من ذلك التوجه، وهذا يتضح في مجالات مختلفة من العلوم والفنون والآداب، في الفلسفة والثقافة والأدب والسياسة والدين والنقد والعلم، فلا يوجد هناك نمط من أنماط التفكير ولا علم من العلوم، بريء من تلك الموجهات والدوافع. وما هو موجه ومحرك للفرد يحرك الجماعة أيضاً، بل قد يصل الأمر الى أن يكون ذلك الفرد، مفكراً كان أم فقيهاً، سياسياً أم قائداً، ثائراً أم مثقفاً، قد يكون سلطة كبرى يتبعه عامة الناس ويقتفون خطواته ويسيرون خلفه، بصورة عاطفية دون معرفة أو نقد وتمحيص لما يقول ويقوم به ولما يهدف اليه، ويكون رمزاً وسلطة يمارس دوره السحري والكارزمي على الجمهور بصورة شعبوية يشحن ويغذي الجماعة ليحقق عن طريقهم رغباته ويتخذهم جسراً للعبور الى شهواته وطموحه، أو قد يُتخذ صنماً وقائداً ومخلصاً من قبل الجماعة دون رغبة منه أو تصريح بذلك، فتصنعه الجماعة وتتخذه رمزاً لها، والتاريخ مليء بالشواهد والنماذج المؤثرة والفاعلة على الجماعة، سواء بصورتها الأيجابية أو السلبية.
كي لا نبتعد كثيراً عن الموضوع الرئيس لمقالنا وموضوعنا الأساس الا وهو البحث في محركات التفكير وموجهات النقد، نقد الأنا للآخر، باختلاف توزع الادوار، عندما يكون الأنا ناقداً لأنا الآخر المُختلف عنه، أو عندما يكون أنا الآخر ناقداً للآخر المُختلف عنه، وان كنا لا نقر بشيء اسمه (أنا وآخر) بهذا التوصيف الذي يؤدي الى التفرقة بين الذوات وتمزيق نزعة الأنسنة وتشظي الانسانية، فـ (الأنا والآخر) هي ثقافة أو توجه معلوم الهوية والأهداف، للاثارة الجغرافية والتاريخية وتحقيق الفصل لا الوصل بين البشر باختلاف تنوعاتهم وهوياتهم، فنحن مهما أختلفنا وتنوعنا انما نحن بشر، تجمعنا صفة البشرية والآدمية وتوحدنا نزعتنا الانسانية دون غيرنا من الكائنات.
الأديولوجي والأبستملوجي، دوافع ومحركات تتضح معالمها للقاريء والمثقف اللبيب، وتنكشف ملامحها ظاهرة أو باطنة لديه، أثناء ممارسة القراءة أو الدراسة أو الكتابة، وهذا ما سعى الى كشفه الكثير من الكتاب والمفكرين ومنهم المفكر العربي جوارج طرابيشي (1939ـ2016) في العديد من مؤلفاته، ومنها كتابه ( مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة)، الذي أكد فيه وكشف عن نرجسية المثقف والمفكر العربي في عودته المفرطة للتراث والتاريخ ليضمد جرحه النرجسي، أو حين أفرط في عودته للفكر الغربي، حين أدرك الفارق الحضاري والفكري والمعرفي، بينه وبين الغرب، وكما يقول طرابيشي : ( والحال أن الرغبة في تضميد هذا الجرح النرجسي، بعد أن أدت في الحالة العربية، في طور أول، الى تضخم في أيديولوجيات الثورة الحارقة للمراحل التي اجتاحت الساحة العربية غداة الاستقلالات تحت ألوية القومية والماركسية والناصرية، أدت في طورٍ ثانٍ، ولا سيما منذ أن كشفت هزيمة 1967 عن مأزق الأيدولوجيات الثورية وفشلها، الى نقل الصراع الأيديولوجي الى ساحة التراث، وكذلك الى تبلور أيديولوجيا تراثية خالصة، أي أيديولوجيا تريد الأستغناء عن كل أيديولوجيا “مستوردة” لتنزل التراث نفسه منزلة الأيديولوجيا. ولكن في حال الازاحة كما في حال الاستبدال، وسواء أاُتخذ التراث ساحة بديلة للصراع الأيديولوجي أم جرى تحويله هو نفسه الى أيديولوجيا بديلة، فان اللحظة الطاغية في التعاطي مع هذا التراث تبقى هي اللحظة الأديولوجية بكل مسبقاتها وتحيزاتها واسقاطاتها ومسكوتاتها وعماءاتها، مثلما تبقى اللحظة الغائبة أو الواهنة الحضور هي اللحظة المعرفية، بأداتها التي هي التحليل العلمي الموضوعي، وبغايتها التي هي الحقيقة التاريخية.).(1)
وطرابيشي لا يذم ولا ينتقد المفكر العربي المعاصر في عودته لتراثه وتاريخه وجذوره، فكل شعوب الأرض تفتخر بذلك، ولكنه ينتقد ويرفض العودة المفرطة للتراث، فيقول : ( نحن لا ننكر، بالطبع، أن “العودةالى الجذور” همّ طاغٍ في العديد من ثقافات العالم المعاصر، ولا سيما منها تلك التي تعاني من أزمة هوية في خضم تصاعد مد المثاقفة على نحو غير مسبةق اليه سرعةً وكثافةً وشمولاً في تاريخ العلاقات بين الجماعات البشرية، ولكننا نعتقد أن هذه الظاهرة عينها تعرف في الثقافة العربية المعاصرة استفحالاً مضاعفاً بالنظر الى خصوصية يتسم بها التاريخ العربي المعاصر ولا تكرر نفسها في الخبرة التاريخية المعاصرة لأية أمة أخرى على وجه الأرض. وبالفعل، اذا كان الجرح النرجسي ذو الطبيعة الأنثروبولوجية قاسماً مشتركاً بين العرب وبين سواهم من شعوب الشطر غير الغربي من الكرة الأرضية، وهو جرح ناجم في الأساس عن السبق الحضاري المنقطع النظير في التاريخ العالمي الذي حققه الشطر الغربي من الكرة الأرضية بالقياس الى الشطر غير الغربي ـ وعلى حسابه أيضاً الى حد ما ـ فان هذا الجرح النرجسي عينه يبدو في الحالة العربية قيد تفعيل مضاعف، وعصياً على الألتئام بحكم الهزيمة العربية أمام المشروع الصهيوني).(2)
ما كشفه طرابيشي من نظرة المثقف والمفكر العربي المقدسة للتراث من جهة، ونقده للغرب من جهة أخرى، أو من جهة تقديس المنجز الغربي ونقد التراث العربي والاسلامي، أو بالأحرى الأعلاء من شأن الفكر العربي ونقد الفكر الغربي أتضح بصورة جلية في كتابه (شرق وغرب، رجولة وأنوثة) دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية، الذي عرض فيه لرؤية الشرقي، والعربي منه على وجه التحديد، لنظرته الأبوية والذكورية التي تؤدي الى التسلط والسيطرة، فـ (في مجتمع أبوي شرقي، متخلف ومتأخر، مشحون حتى النخاع بأيديولوجيا طهرانية، متزمتة وحنبلية، يغدو مفهوم الرجولة والأنوثة مفهوماً موجهاً لا للعلاقات بين الرجل والمرأة فحسب، بل أيضاً للعلاقات بين الانسان والعالم.)(3) فهو هنا أزاء ظاهرة الفحولة التي تدل على السيطرة والمقدرة والأستحواذ، أمام الأنوثة التي تدل وتقتضي الذل والدونية والطاعة، الفحولة كظاهرة طاغية في الثقافة العربية، ونمط ثقافي سائد في المجتمع العربي، وفي مجال الأدب تحديداً، ادى الى صناعة الطاغية كما أكد عليه عبد الله الغذامي في كتابه (النقد الثقافي) فمثلاً يقول الغذامي : ( حينما ننظر في معجم صدام حسين نلحظ حالة التطابق مع النموذج الشعري النسقي، فهو لا ينتسب للعالم بمقدار ما ينتسب العالم اليه، فهو ليس عراقياً بمقدار ما يكون العراق صدامياً، فالجيش هم جنود صدام، وما يفعله الجيش هو قادسية صدام، كما يصف حرب الخليج الأولى مع ايران، كما انه ليس بعثياً بمقدار ما ان الحزب صدامي، وهذه هي القيم التي عززها النسق الشعري حيث جعل مركزية الفحل هي عماد القول، متعالياً على الفعل ويجري الصاق الصفات بالممدوح كشرط نسقي لكونه ممدوحاً، مثلما يتنمذج الشاعر بسمات التفرد والتوحد كشرط لكونه فحلاً).(4)
وعوداً لطرابيشي فهو يرى ( ان عملية المثاقفة، بافتراضها وجود طرفين موجب وسالب، فاعل ومنفعل، ملقح وملقَح، تطرح نفسها على الفور كعملية ذات حدين مذكر ومؤنث. ولكن نظراً الى أن الثقافة الحديثة ـ نظير القديمة ـ هي في الأساس والجوهر ثقافة ذكور، فان المثاقفة لا توقظ في الطرف المتلقي أحساساً بالدونية المؤنثة بقدر ما تبعث فيه شعوراً مرهقاً بالخصاء الفكري والعنة الثقافية.)(5)
فنقد العربي للغربي هنا ليس بريئاً ولم ينطلق من أسس علمية ومنهجية وأبستملوجية، بل أقيم على أسس نفسية وأجتماعية وتاريخية لا تمت الى الحقيقة العلمية والتاريخية بشيء، فالشرقي هنا والعربي تحديداً يريد غلبة الغربي والسيطرة عليه حضارياً كما يسيطر الذكر على الأنثى جنسياً.
ولذلك ففي كتاب (مذبحة التراث في الثقافة العربية) يتضح نفس المنهج والسياق الذي أختطه وأظهره طرابيشي في كتابه الأسبق (شرق غرب رجولة أنوثة)، فالمفكر العربي عاد بقوة الى تراثه القديم ليستحضره ويحيه في حاضره، أو الى رفضه بالمطلق والأخذ من الغرب، ففي الحالتين كان المفكر العربي على خطأ، وتسلح بالأيدلوجيا بديلاً عن الابستملوجيا والمنهج العلمي الحقيقي البريء من دوافع دينية أو سياسية أو قومية، كما هو الحال مع سمير أمين وتوفيق سلوم في التيار الماركسي ومحمد عمارة وزكي الأرسوزي في التيار القومي، وزكي نجيب محمود ومحمد عابد الجابري في التيار العلمي. الذين وقعوا في منهج الأسقاط الأيديولوجي، هذا المنهج الذي يبتعد عن الحقيقة والموضوعية تماماً، وبالتالي يكيف الأمور والحقائق كيفما يريد، ويضيف من عندياته الكثير، هذا المنهج الذي كانت الساحة الثقافية العربية والاسلامية مسرحاً له، تصارع عليه الكثير من المفكرين والمثقفين والتيارات والاحزاب والجماعات الدينية والسياسية والثقافية، والذي ذهب اليه طرابيشي في دوافع ومحركات النقد والقراءة والتحليل للمفكر العربي، أراه بنسبة ما هو نفسه يعد محركاً أيضاً لبعض المفكرين والمثقفين الغرب تجاه العرب والمسلمين خاصة والشرق عامة، وما النظريات والآراء التي تذهب الى مركزية الغرب وقوته وسيطرته وتفوقه الا أفكار عنصرية تريد الاستحواذ والسيطرة على الشرق عموماً والشرق الأوسط تحديداً، من خلال الاستعمار والاحتلال للشعوب والسيطرة على ثرواتها، وما الاستشراق عن ذلك ببعيد، لأنه يمثل الشكل الثقافي للاستعمار، والجناح الثاني للسيطرة والاحتلال الى جانب الجناح العسكري. ففي حالة نقد العربي للغربي ونقد الغربي للعربي تكمن الدوافع الايديولوجية ويغيب الابستمولوجي والعلمي، ولكن ذلك ليس تعميماً لعموم المفكرين العرب والغربيين، ولكن يشكل نسبة ليست بالقليلة في مجال الثقافة العربية والغربية، وبالتالي نحن أمام منهج نقدي أسقاطي وأيدلوجي عدواني سيئ يطيح بالثقافة والمعرفة معاً، ويريد كل واحد أن يثبت تفوقه ومركزيته وسيطرته، ومن المؤسف أن يكون هذا هو شكل المنطق الذي يحرك الثقافة والفكر في القرن الواحد والعشرين، كمنطق كتب (الانتصار) و (الفرق الناجية) و (صراع الحضارات) و (نهاية التاريخ)، رافضين وتاركين منطق (حوار الحضارات) وتعارفها، والتواصل الحضاري والانساني بين الشعوب والثقافات والأمم.
د. رائد جبار كاظم. استاذ فلسفة. الجامعة المستنصرية. العراق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عبد الله الغذامي. النقد الثقافي، قراءة في الانساق الثقافية العربية. ط3. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء ـ المملكة المغربية. ص7.
جورج طرابيشي. مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة. ط3. دار الساقي. بيروت. 2012 ص 8ـ9.
طرابيشي. المصدر نفسه. ص 7ـ 8.
طرابيشي. شرق غرب رجولة أنوثة. ط4. دار الطليعة. بيروت ـ لبنان. 1997ص 5.
الغذامي. النقد الثقافي، قراءة في الانساق الثقافية العربية. ص 193.
طرابيشي. شرق غرب رجولة أنوثة..ص 11.