شغلت قضية نقد المثقف مجموعة كبيرة من المفكرين والدارسين والنقاد، من خلال كتابات ومؤلفات متنوعة في هذا المجال، كتبت من قبل أعلام وأقلام فكرية كبيرة في الساحة الثقافية العربية، ومن بين هؤلاء المفكرين الذين أهتموا بهذا الموضوع المفكر العربي اللبناني علي حرب، الذي يعد أحد أهم أعلام ورموز فكر ما بعد الحداثة على الساحة الثقافية والفكرية العربية، من خلال طروحاته وكتاباته ومنهجه النقدي التفكيكي، الذي تأثر به من خلال ما قدمه رواد الفكر الغربي من فلسفات وأفكار ما بعد حداثوية أمثال جاك دريدا وميشيل فوكو وجيل دلوز وبودريار، في محاولتهم لنقد فكر الحداثة الغربية وما تمخض عنه من تقديس مطلق للعقل، وقد أستلهم على حرب المنهج التفكيكي لتطبيقه على الثقافة والفكر وواقع المجتمع العربي، من خلال مؤلفاته الفلسفية والنقدية الكبيرة والمميزة في فلسفة النقد ونقد النقد، وهذا ما صرح به مراراً وتكراراً في مشروعه الفكري وخطابه النقدي الثقافي.
من الموضوعات المهمة التي شكلت نقطة وعلامة بارزة في مشروع على حرب هي قضية نقد الثقافة والمثقف العربي وما قدمه ذلك من خطابات وشعارات أيديولوجية رنانة ساهمت في نكوص وتراجع العقل العربي على كافة المستويات والمجالات، وقد كان ذلك المثقف يعتقد بنخبويته وتميزه عن الناس وعن كافة فئات المجتمع، لما يتميز به من فكر ومعرفة وثقافة، ويعتقد بريادته وقيمته ووصايته على الآخرين، من خلال خطابه ومنتجاته ومخرجاته الفكرية والثقافية، وهذا ما شكل عقدة كبيرة في خطاب المثقف تجاه واقعه وتجاه ذاته، وبدلاً من أن يكون الحل للخروج من الأزمة أصبح هو جزءاً من الأزمة، ولذلك يقول علي حرب : ( مشكلة المثقفين الكبرى : أنهم لا يعرفون المشكلة بقدر ما يجهلون المهمة، بمعنى انهم لا يعرفون أن المشكلة تكمن في أفكارهم، بقدر ما يجهلون أن المهمة الآن هي أن يعيدوا النظر في مقولاتهم وقيمهم وأدوارهم) علي حرب.(1)
وينتقد علي حرب المثقف النخبوي ومن يدعي الحداثة كما ينتقد الشخص الأصولي والمتطرف والمنغلق على ماضيه ومعتقداته، فأن كان الشخص الأصولي يتعصب لتراثه وماضيه ومعتقده فأن الأيديولوجي والحداثوي والمثقف يتعصب لمرجعياته الفكرية والثقافية كما يتعصب الأصولي، ولذلك فالأصوليات عند حرب متساوية، (والاصوليات تتساوى من حيث ترجمة المشاريع على أرض الواقع، وأن أختلفت من حيث المنطلقات العقائدية، اذ هي أحرقت المثالات تباعاً، سواء باسم العروبة والوحدة والاشتراكية أو باسم الله والاسلام والشريعة…من هنا ليس الوضع على جبهة المثقفين الحداثيين أقل حرجاً أو افتضاحاً، من حيث مصائر الأفكار وحرق المثالات والشعارات ، مما هو عليه من جبهة الدعاة الاسلاميين. مما يعني أن رفع شعارات العلمانية والعقل والاستنارة والحرية، قد أمسى عملة قديمة ومستهلكة، بعد انهيار المشاريع التي أنبنت على الشعارات المذكورة، خصوصاً وأن هذه الشعارات قد ترجمت دوماً بأضدادها، فقراً وفرقة أو فوضى وتخلفاً أو استبداداً واستغلالاً).(2)
وينظر حرب للمثقف على أنه ميز نفسه عن الناس وحصر نفسه في زاوية ضيقة، وبالتالي فهو متعالي على الناس بفكره ومنطقه وشعاراته، وبالتالي جعل المثقف من نفسه سلطة مقدسة أو الناطق الرسمي باسم الآخرين، فـ (أن النخب الثقافية، لكونها تنتج المعارف، تعتقد أنها تحتكر عقول الأمم والشعوب. ولذا فان الواحد منهم اذا أراد أن يتحدث عن العقل أقتصر على دراسة نتاج الفلاسفة والعلماء وسواهم من العاملين في الحقل الثقافي، مهملاً بذلك جهود الناس ونتاجاتهم ، في بقية الحقوق والقطاعات. وهذه نرجسية مآلها التبسيط والاختزال لواقع العقل والفكر أو الثقافة والمجتمع.)(3)
ويرى حرب أن هناك مجموعة من الأمور التي يعتقد بها المثقف النخبوي، والتي تشكل بدورها عوائق في طريق تقدم ذلك المثقف، وتتمثل تلك العوائق بثلاثة جوانب هي : (4)
1ـ اعتقاد شريحة من الناس هم العاملون في القطاع الثقافي، أنهم يجسدون عقل الأمة وصفوة البشرية.
2ـ ممارستهم الوصاية على القيم العامة المتعلقة بالحقيقة والحرية أو بالعدالة والمساواة.
3ـ ادعاؤهم امتلاك مفاتيح الخلاص والسعادة، من خلال مشاريع الاصلاح والنهوض أو للتحرير والتغيير أو للتنمية والتقدم.
نحن اذن أمام مجموعة من العوائق التي جمدت حركة المثقف وجعلت منه شخصاً مأزوماً لا يقل عن أي شخص آخر، ولم يعد ذلك المثقف مجسداً لدوره النضالي ولا لدعواته الرسالية، وأثره في خلق الأفكار وتطبيقها والدفاع عنها، بل تحول الى “بائع أوهام” وانها تحسب نفسها فوق الجميع، كونها تشتغل في الحقل المعرفي والثقافي. ويرى حرب أنه ينبغي اعادة النظر حتى في مفهوم النخبة، (الذي يزين للمثقف الاعتقاد بأنه يمثل عقل المجتمع أو ضمير الشعب)(5)
حيث أن الأمر اليوم ليس كالسابق، فما عاد المثقف رسولاً ولا الجمهور عواماً جاهلة، وما عادت هناك ثنائية النخبة والجمهور، فهذه الثنائية تصدعت وتقوضت اليوم بفضل العولمة والمعلوماتية والتواصل الثقافي والمعرفي الكبير في العالم.
ويذكرني هنا علي حرب بالمفكر العراقي علي الوردي (ت 1995) ونقده للمثقف أيضاً في مواضع كثيرة من كتاباته، وقد تناولنا بالبحث والكتابة صورة المثقف عند الوردي في مقال سابق، يرى الوردي بأن الانسان مرتبط بحدود وأطر متعددة هي : الاطار النفسي والاطار الاجتماعي والاطار الحضاري، وهي بمثابة قيود وسجون يكون الفرد أسيراً لها، ولا يستطيع الخلاص منها مهما بلغ الانسان من منزلة الا بزيادة وعيه الثقافي وادراكه المعرفة والتواصل والاتصال مع الآخرين، وهذه الاطر بنظر الوردي هي التي تحدد رؤية الانسان للعالم والحياة والمجتمع، وليس هناك في نظر الوردي من فرق في هذه الأطر بين المتعلمين وغير المتعلمين، وأن كان هناك فرق فانما هو بالدرجة وليس في النوع. ويرى الوردي (أن المقياس الذي نقيس به ثقافة شخص ما هو الا مبلغ ما يتحمل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه، فالمثقف الحقيقي يكاد لا يطمئن الى صحة رأيه، ذلك لأن المعيار الذي يزن به صحة الآراء غير ثابت لديه، فهو يتغير من وقت لآخر)(6)
وهذا ما يذكرنا بكلام علي حرب أعلاه في معيقات التفكير وسجون المثقف الدوغمائية، وكما نقد علي حرب المثقف النخبوي العربي في توجهاته نحو الحداثة وتطرفه في العقل مما أدى الى سوء استخدامه وهيمنة سلطته على الآخرين، فقد نقد علي الوردي تلك الطبقة ممن يدعون النخبوية والثقافة والوعي، فـ ( الوعاظ المتفرنجون لا يقلون عن المعممين في ولعهم بالنصائح الفارغة. فلا يكاد أحدهم يذهب الى بلد من بلاد الغرب حتى يرجع وقد أنتفخت أوداجه غروراً وتحذلقاً، ويأخذ عند ذلك بتمجيد سجايا الغربيين وسمو أخلاقهم. ثم ينظر الى من حوله من البؤساء فيرمقهم بنظرة ازدراء ويقول : “ما لكم لا تتخلقون بأخلاقهم؟ᴉ”…يفخر المعممون بأخلاق السلف الصالح، ويفخر المتفرنجون بأخلاق الغربيين. وهم جميعاً يريدون أن يضعوا أمام الناس غاية لا تنال على سبيل الالهاء والترويع)(7)
وحين قارب علي حرب بين نزعة التعصب والتطرف والاصولية بين المثقف وغيره من الفقهاء أو رجال الدين وعامة الناس حين يتمسكون بمعتقداتهم وأيديولوجيتهم بشكل أعمى دون السماح للآخرين بنقدهم أو التشكيك بفكرهم وما يعتقدون، فقد ساوي علي الوردي أيضاً بين ما أسماهم بـ “وعاظ التدين” و “وعاظ التمدن” حيث يقول : ( والغريب أن الوعاظ “المتفرنجين” لا يختلفون عن الوعاظ “المعممين” الا بمظاهرهم الخارجية ومصطلحاتهم التي يتمشدقون بها. هؤلاء يصيحون “الدين..الدين..يا عباد الله” وأولئك يصيحون “التمدن..التمدن..يا أبناء الفاتحينᴉ)(8)
وهذا النوع من التعصب والتطرف والأصولية الذي يتساوي به المثقف مع المتدين أو المتحزب والأيديولوجي يقود بالتالي الى أختام أصولية ونرجسية ثقافية والانبهار بشعائر الحداثة، ـ بتعبير علي حرب ـ تجعل الذات هائمة في نزعة تقديسية مفرطة، فأن كان البعض يتمسك بالدين والماضي والتراث الاسلامي والرجوع الى السلف، فأن أتباع الحداثة يدعون الناس من أجل التمدن والرقي والتقدم للرجوع الى الغرب ومنجزه الحضاري والعلمي االمعاصر. (واذا كان ثمة مأزق نشعر به، فالخروج منه يعني تجاوز موقفين : الموقف الأصولي الذي يبحث عن حلول لمشكلات الحاضر في الماضي الاسلامي، عبر نفي الحداثة وأنجازاتها أو رجم العولمة وفتوحاتها، ثم الموقف التقدمي أو الجبري، الذي يبحث عن حل لمشكلات الواقع في حداثة غربية آفلة، عبر نفي الموروث من المآثر والمعجزات).(9) أن الالتفات الى الواقع والحاضر وما يفرزه المجتمع من أحداث أمر في غاية الأهمية، ولا يجب أن نغفل قيمة ما يحدثه الزمان والمكان من أحداث وظروف، فهي عناصر مهمة ومؤثرة في حياة الانسان حركته وصناعة التاريخ، ومنطق الفكر والتاريخ والعلم قد أختلف اليوم أختلافاً كبيراً عن الماضي، وينبغي لنا أن نلتفت لروح العصر ولغته ومنطقه، يقول الوردي : ( لقد آن الأوان لكي نحدث أنقلاباً في أسلوب تفكيرنا، فقد ذهب زمان السلاطين وحل محله زمان الشعوب. وليس من الجدير بنا ونحن نعيش في القرن العشرين ، أن نفكر على نمط ما كان يفكر به أسلافنا من وعاظ السلاطين. آن لنا أن نفهم الطبيعة البشرية كما هي في الواقع ، ونعترف بما فيها من نقائص غريزية لا يمكن التخلص منها، ثم نضع على أساس ذلك خطة الاصلاح المنشود.)(10)
ونحن حين نرصد مستوى التقابل أو التشابه في بعض نقاط نقد المثقف بين علي حرب وعلي الوردي، والموقف النقدي في الكثير من الموضوعات، من خلال ذكر بعض النصوص البسيطة فأننا نرى أن منهج علي حرب منهجاً فلسفياً فكرياً بحتاً، بينما كان منهج علي الوردي منهجاً اجتماعياً ثقافياً بحتاً، الا أنهما أشتركا في مسألة النقد الثقافي للمثقف وللبنية الثقافية والاجتماعية والتاريخية، كما أننا نسجل على علي حرب لغته الخطابية الفلسفية النخبوية العالية، والخوض في مصطلحات ومفاهيم تحتاج الى قاموس تعريفي بها، في حين نجد أن علي الوردي قد أقترب من الجمهور كثيراً في لغته البسيطة وأمثلته المنتقاة لذلك، والوردي يمقت اللغة الخطابية المجردة التي تحتاج الى قاموس تعريفي يوضحها للقارىء، والدليل على ذلك هو مؤلفات حرب والوردي وكتاباتهم، ولمن يريد التأكد من ذلك فليذهب لقراءة مؤلفاتهما ويتحقق من الأمر بنفسه، وما هذا المقال البسيط الا لإثارة الموضوع وتحفيز القراء والمثقفين والباحثين للبحث بصورة موسعة في ذلك لكشف نقاط التقارب أو الاختلاف بين الأثنين، أو بين مفكرين وباحثين آخرين في هذا الموضوع.
د. رائد جبار كاظم. أستاذ الفلسفة. الجامعة المستنصرية. العراق.
الهوامش :
(1) علي حرب. الأختام الأصولية والشعائر التقدمية : مصائر المشروع الثقافي العربي. ط1. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء ـ المغرب. بيروت ـ لبنان. 2001. ص 142.
(2) المصدر نفسه. ص 197 ـ 198.
(3المصدر نفسه. ص 143.
(4) ينظر: المصدر نفسه. ص 140.
(5) المصدر نفسه. ص 143.
(6) علي الوردي. خوارق اللاشعور.ط2. دار ومكتبة دجلة والفرات. بيروت ـ لبنان. 2010. ص 46 ـ 47.
(7) علي الوردي. وعاظ السلاطين. دار ومكتبة دجلة والفرات. بيروت ـ لبنان.ط1. 2009. ص 270.
(8المصدر نفسه. ص 269.
(9) علي حرب. الأختام الأصولية. ص 130.
(10) علي الوردي. وعاظ السلاطين. ص 271.