23 ديسمبر، 2024 2:21 م

حين كنت أراجع “بروفات” أعمالي الشعرية اكتشفت أن الوعي الذي أنا فيه، يتناقض مع بعض ما ورد في قصائدي، وهذا الأمر أقلقني.

في دراسة كتبها الناقد المغربي رشيد بنحدو، بعنوان “عودة إلى فضيحة الماضي البسيط ” تناول جوانب من قضية أثارتها رواية” الماضي البسيط ” في أواسط خمسينات القرن الماضي، وعصفت بكاتبها إدريس الشرايبي، وهو ثاني اثنين من رواد الكتابة بالفرنسية من المغاربة، والأول هو أحمد الصفريوي، إلى حد اتهام الشرايبي بالخيانة الوطنية.

ولست هنا في موضع الكتابة عن الرواية أو عن كاتبها، ومعاناته وتحولاته وتحولات الموقف منه، فذلك أمر كتب عنه الكثير، إذ لم تغب هذه القضية عن الوسط الأدبي المغربي وإلى حد ما عن الرأي العام، على امتداد عدة عقود من الزمن.

وما سأتناوله هنا تحديداً، هو تراجع الكاتب عن موقف عبَّر عنه كتابة في مرحلة من المراحل، وإعلان براءته من ذلك الموقف.

ومن المعروف أن الشرايبي لم يصمد وقتذاك في مواجهة الحملة التي تعرض لها، من موقف سياسي بعيد كل البعد عما هو جمالي في روايته “الماضي البسيط”، حيث قال “إن المقالة التي أدانتني بلا هوادة، قد أبكتني، كنت سأبتهج كثيراً لو أنها نشرت في جريدة أخرى غير مغربية، أنا أتفهم الآن أن مواطنيّ، إذا كانوا في معمعان الواقع وخضم الحدث، فقد كنت أنا خارج كل هذا، الأمر الذي جعلني أسيء إلى وطني، أنا أتفهم هذا جيداً الآن، لذلك أقسم بالله القدير(…) أن أنصرف من الآن عن كل ما من شأنه أن يُفرق بيني وبين وطني”.

وعن هذا الموقف يقول الناقد بنحدو في دراسته المشار إليها آنفاً، وبعد ما يقرب من نصف قرن “الشرايبي في نظري، قد اقترف إثماً غير هيِّن حين أعلن براءته من روايته، لنتصور أن كل أولئك الأدباء الذين افتتحت هذا المقال بالتعرض لمحنتهم مع الرقابة السياسية والأخلاقية والدينية والنقدية في بلدانهم.. -ويقصد بهم، كما ورد في دراسته، جورج صاند وفلوبير وبودلير وديفيد لورنس وسلمان رشدي وبوريس باسترناك وسولجنتسين وآخرين، وكل منهم تعرض لحملة من النقد والضغط و التشهير، بلغت أحياناً حدَّ الاضطهاد- لو أن هؤلاء -والقول ما زال لرشيد بنحدو- قد تخلصوا من أعمالهم، سيكون ذلك مهزلة كبرى”.

ويقول “كان بإمكان الشرايبي أن يكتفي بنشر بيان يوضح فيه للرأي العام المغربي، حقيقة الأمور.. إلخ”.

إن هذا الرأي هو الذي وددت أن أتوقف عنده، فهل كل ما يمت إلى نقد الذات، يُعد موقفاً سلبياً؟ نعم، هو كذلك حين يصدر عن موقف نفعي انتهازي، مصدره الجبن والمصلحة والقفز من منبر إلى آخر، من دون قناعة أو قدرة على الإقناع، والبحث عن المنفعة بصفحتيها المادية والمعنوية.

لكن.. هل هو كذلك، حين يصدر عن وعي حقيقي، يدرك المتغيرات، ويمارس النقد الذاتي، على القول والممارسة؟ وأنا هنا لا أدافع عن موقف الشرايبي، ولا أدينه، بل أحاول قراءة ما قاله بنحدو، قراءة موضوعية.

على سبيل المثال، حين هاجر الروائي الروسي سولجنتسين إلى أميركا في سبعينات القرن الماضي، رأيت تلك الرحلة، في إحدى قصائدي وقتذاك، في مصاف التفريط، لكن بعد تفكك الاتحاد السوفييتي اكتشفتُ في مواقفه من الثبات وصدق الوطنية ما دفع بي إلى الندم، لكن ماذا ينفع الندم، والقصيدة ما زالت حاضرة، حتى لو حاولت حذفها.

وحين كنت أراجع “بروفات” أعمالي الشعرية اكتشفت أن الوعي الذي أنا فيه، يتناقض مع بعض ما ورد في قصائدي، وهذا الأمر أقلقني. لكنني لم أُقْدم على تغييرها أو حذفها أو الحذف منها، خشية ألا تفهم دوافعي في التغيير والحذف، مع أنني لو فعلت ذلك، لم أتجاوز في ما أفعل، نقد الذات، بتأثير متغيرات الوعي.
نقلا عن العرب