22 ديسمبر، 2024 3:43 م

أنتهى من أرتداء معطفه وأنحنى لوضع قدميه في حذائه المريح والقى نظرة أخيرة الى المراة، قبل أن يخرج من باب الشقة، حيث تسرب اليه صوت زوجته مُذكرةً اياه بإحدى وصاياها.

 

_ مو تنسى تجيب برتقال والبان وبالفين صمون.

 

أكمل مشواره الى محل الصيرفة القريب وقبض راتبه التقاعدي الذي أحصاه 3 مرات قبل أن يتجه الى مكتب “ابو كريم للعقار” لدفع نصيبه من السلفة الشهرية التي تستنزف ثلث راتبه.

 

أعتذر عن شرب الشاي الذي كان أبو كريم قد فرغ من إعداده لحظة دخوله الى المكتب، طالباً منه أن يتأكد من المبلغ الذي سلمه له، مبدياً ممانعة شكلية لاستلام “وصل قبض” يؤكد انه سدد القسط الخامس من السلفة التي ينتظر دوره لإستلامها وإنفاقها في سفرة لمدة شهرين يمضيها مع زوجته على سواحل مدينة سامسون التركية.

 

وضع وصل القبض في جيبه، واعاد إحصاء الباقي من راتبه، ويمم نحو محل او “علوة الفرح لبيع الخضروات والفواكه”، بعد ان قرر أستبدال المحل القديم الذي كان يتبضع منه؛ بسبب تجهُم وجه صاحبه وعدم تبسطه في الكلام مع الزبائن.

 

لم يُغريه حجم البرتقال الضخم وقشرته اللامعة، فهي من العلامات التي تُشير الى طعم مُغاير ومذاق يشبه الفلين، مما جعله يبحث في أرجاء المحل عن نوعيات أخرى من البرتقال ويسأل صاحب المحل، الذي أجاب بطريقة أحتيالية.

 

_هذا ممتاز ومليان مي وطعمه عسل.

 

سأله في محاولة للتملص: عراقي ؟

 

_وين أكو عراقي استاذنا، هذا سوري، واراهنك راح ترجع تاخذ منه مرة ثانية.

 

سارع بالدفاع: ليش هو أكو اطيب من طعم برتقال ديالى، بس ماكو تشجيع ودعم للفلاح حتى يزرع ويغذي السوك.

 

حين ايقن ان كلامه لا يصدر عن زبون حقيقي، تغيرت سحنته ولهجة صوته:  أستاذنا تره هذا مكان شغل مو برنامج نقاشات سياسية، واتفضل منا خلي نشوف رزقنا.

 

أنسحب سريعاً حين أدرك ان خطوته التالية ستكون فعلاً او كلاماً جارحاً أكثر من الذي تلفظ به.

 

حذف البرتقال من قائمة المشتريات، وأتجه إلى المحل الكبير الذي يطلقون عليه تسمية “هايبر ماركيت” لشراء مجموعة منتجات ألبان يستخدمها في وجبتي الفطور والعشاء، في روتين لم يتغير منذ أكثر من 30 سنة أمضاها في قفص الزوجية.

 

مسح بعينيه رفوفاً تبلغ عدة أمتار ومحملة بكل أنواع الحليب والقشطة والجبن والزبدة، ومشتقات أخرى مستحدثة، ومن عشرات العلامات العربية والأجنبية، وحين طال وقوفه تقدم منه شاب يرتدي قميصاً مكتوب عليه انه سيكون سعيداً بمساعدة الزبائن.

 

بادره الشاب بالسؤال: تدور شي مُعين استاذ ؟

_ أي شي عراقي وياريت لو من مصنع أبو غريب؟

أصر الشاب على أسلوبه المؤدب: أعتذر منك؛ لأن ما نتعامل وياهم.

_ليش ؟

ابتسم مُجبراً وأجاب: منتجاتهم قليلة جداً، يوم موجودة و10 مختفيه، وهذا يخجلنا ويه الزبائن.

 

عاودت اللهجة الأستفهامية: وليش قليلة وهو معمل ضخم وقديم وعنده سمعة ممتازة.

 

بدا يفقد الروح المرحه والمصطنعه: أستاذ خلي نكون واقعيين، منو يقبل المنتج المحلي ينافس الأجنبي الي كل وكالة منه تابعة لشخصية متنفذه، وتكدر تسأل عن كل وكالة ألبان أجنبية وراح تعرف منو الوكيل مالهم بالعراق.

 

أحس ان الوقت حان للأنتصار المزيف: ابني انت عامل على باب الله، عوف النقاشات السياسية الخطرة ودير بالك على رزقك.

 

غادر المكان منتشياً وهو يرمق الشاب الذي تحولت ملامحه المؤدبة والمرحه، إلى حالة مُختلطة من الصدمة والهلع.