23 ديسمبر، 2024 5:38 ص

داود هذا جندي مكلف من أهالي الجنوب العراقي. تعرفت عليه في الكتيبة المدفعية المتوسطة/ 53 (ك م مت /53) التابعة للفرقة الثانية في الفيلق الأول في منطقة قره عنجير بكركوك حيث كنت جنديا فيها عام 1996.

كنت في قلم الكتيبة وأشاهد اسم داود في الأوراق، إلاّ أنني لم أشاهده لحد الآن. سألت عنه فاخبروني أن داود هذا هو الجندي المرابط في إحدى نقاط الحماية الواقعة فوق تلة عالية، حيث أن الكتيبة تقع في وادي ومحاطة بتلال من الأطراف الأربعة.

شاهدت داود ذات مرة ينزل من التلة.. هذا المخلوق العجيب الذي لا يترك التلة إلا لحاجته للطعام والشراب.

الجنود تستقتل للحصول على إجازة والنزول إلى البيت، وداود هذا لا يعير أية أهمية لأمر الإجازة. حقيقة أمره غريب هذا الرجل فأنا أكتب ورقة الإجازات للجنود ومنذ شهرين لم أكتب إجازة ليوم واحد لداود. لابد أن داود هذا مختل عقليا أو يعاني من مشكلة نفسية وليس لدي تأويل آخر لأمره.

بعد أن نفذ صبري ومن باب الفضول اضطررت إلى صعود التلّة لأتعرف عن كثب على داود، هذه الشخصية الفريدة. وصلت عنده فاستقبلني بكل حفاوة ورحابة صدر. أسرع إلى جلب (القوري) المتفحم الذي يكسوه السواد نتيجة احتراقه فوق الحطب والنفط الأسود، أحضر الشاي وهو يرحب بي وكأنني في مضيفه الخاص. لم أكن اهتم بالشاي بقدر ما كنت مهتما بمراقبة ما يحيط بي في هذا المكان وعيناي تنظران إلى كل شيء في هذه الربيّة.

ونحن نشرب الشاي سألته: منذ متى وأنت في هذا المكان ليجيبني منذ سنتين. ولماذا لا تطلب الإجازة وتذهب إلى اهلك؟ ليخبرني هذه المرة أن بقائه هنا أفضل من النزول إلى البيت. حيث الطريق الطويل من شمال العراق إلى جنوبه وأسرته التي تقطن البادية الحارة. وقال بمجرد وصولي إلى البيت سأكلف برعاية الأغنام والماشية والاهتمام بها وان البقاء هنا يعني الأكل والشرب والنوم أي الراحة التامة بالنسبة له.

وماذا عن الاختلاط بالناس يا ترى، فداود هذا لا يشاهد بشراً إلاّ مرة واحدة كل يومين أو ثلاثة أيام عندما ينزل من التلة للتزود باحتياجاته ولمدة قصير جدا ليسارع إلى خلوته من جديد. قال داود أن الاختلاط تعني المشاكل وتعني (وجع الرأس) وأكد بأنه يقضي وقته مع الكلاب المتواجدة في هذا الفراغ حيث يطعمهم ويهتم بهم. مد يده ليخرج سيكاره ويقدم لي واحدة وقد تعجب داود من عدم تدخيني وقال (عمي دخن وهي تصفى).

اكتشفت في هذه الصحبة أن داود لا يفكر بأي شيء، ولا يعير اهتماما بأي شيء. وقد ترك الأمر إلى الأقدار لتسير كما كتب لها، ولا يهتم بتدهور الأمور مع أمريكا التي تنوي القيام بضربة عسكرية على العراق وتسمي المعركة بثعلب الصحراء آنذاك. ولا يهتم أيضاً بالطائرات الأمريكية التي تحلق فوقنا وقد نكون هدفا لها في أي وقت فنحن كتيبة مدفعية ومن الممكن استهدافنا في أية لحظة. وأوجز كل هذا بجملة صغيرة حيث قال (أمر الوحدة يفكر بدل عنا).

اكتشفت أن نظرية داود تقول أن الذي سيقع يقع رغماً عنا وإن تفكيرنا لا يغير شيئاً وإن الهموم لا تزيد الطين إلاّ بلة. نظرية داود تقول (عمي دخن وهي تصفى) أي إننا لا حول لنا ولا قوة ولسنا طرفا في المعادلة ولسنا أصحاب القرار، وقال داود نحن نطبق الأوامر فقط. داود هذا قد ألغى عضواً مهماً من تكوينه الخلقي ألا وهو العقل. رَكـن العقل والتفكير إلى الجنب واطمأن وترك الأمور تسير كما هي وهو يؤمن انه بتفكيره لن يغير شيئا أبداً.

ولكوني خريج جامعي وأعرف العلوم والدراسة وأهمية العقل في تدبير الأمور، فإنني بطبيعة الحال سخرت من داود. وحسبته جاهلا للغاية وان التفكير شيء لابد منه. إلاّ أنني اكتشف الآن وبعد أكثر من عشرين عاما أن نظرية داود هي الصحيحة وأن داود قد سبقني عقلياً بعشرين عام. فأنا فكرت كثيراً حتى أنني سهرت ليالي طويلة دون نوم أخشى قادم الأيام وما سيحل بالبلد وبمستقبلنا وما تخفيه الأقدار لمستقبل أولادنا. اكتشف الآن وبعد أكثر من عشرين عام أن التعمق في التفكير يضر بالمفكر ولا يفيده قيد أنملة في هذا البلد المثقل بالمجاهيل والمتغيرات. ولتنعم بحياة سعيدة وتتمكن من المواصلة عليك بعدم التفكير في التفاصيل. واكتشفت أن عقل داود أكثر سعةً مني أنا حيث آمنت بنظريته بعد عشرين عاماً. فتفكيري لم يوقف الحروب والتهجير والقتل والإختطاف. ولم أتمكن من معالجة مشكلة الكهرباء والفساد. رغم تفكيري العميق فإن كل المآسي تسير على قدم وساق. ليتني صدقت داود قبيل أن أشاهد الأطفال يموتون في المخيمات والنساء تبحث عن مكان يستظلون به. حقا أن تفكيري لم يغير شيئا ولم يجدي نفعا.