18 ديسمبر، 2024 7:18 م

إن المراد من المعرفة هنا في نظرية المعرفة التي يبحثها الفلاسفة والمناطقة هي خصوص المعرفة الحصولية أي العلم الحصولي..
فنظرية المعرفة تهتم بالعلم الحصولي من حيث تحديد مصدره الأساسي وقيمته..
إن نظرية المعرفة تتكفل الجواب عن سؤالين:
السؤال الأول: ما هي مصادر المعرفة(العلم الحصولي) ؟

السؤال الثاني: هل للمعرفة قيمة؟ بمعنى هل تستطيع المعرفة أن تكشف عن واقع موضوعي مستقل عن الاحساس والذات؟

أما بالنسبة للسؤال الأول فهو عبارة عن سؤالين، لأن العلم الحصولي ينقسم إلى تصور وتصديق وبالتالي فإن السؤال سوف يكون عن :
أ – ما هو المصدر الأساسي للتصور؟
ب – ما هو المصدر الأساسي للتصديق ؟

وأما بالنسبة للسؤال الثاني الذي يستفهم عن قيمة المعرفة فقد كان الجواب عنه سببا في انقسام الفلسفة إلى فلسفة مثالية وفلسفة واقعية..
فالفلسفة المثالية أنكرت الواقع الموضوعي على ضوء إنكارها لقيمة المعرفة في الكشف عن واقع موضوعي مستقل عن الاحساس والذات…

وقد اختلفت الفلسفة المثالية في درجة هذا الإنكار..،
فهناك من الفلاسفة المثاليين من شكك وهناك من أنكر بصورة جازمة وهناك من قال بالنسبية اي أنه لم يؤمن بصورة مطلقة بالواقع الموضوعي وفي نفس الوقت لم ينكر بصورة مطلقة الواقع الموضوعي…

أما الفلسفة الواقعية فهي لم تنكر قيمة المعرفة بل آمنت بقيمة المعرفة وقدرتها على الكشف عن الواقع الموضوعي، فهي آمنت بوجود واقع موضوعي مستقل عن الاحساس والشعور ولكنها أيضا اختلفت في هذا الواقع الموضوعي فالمادية التأريخية الديالكتيكية اقتصرت في إيمانها بالواقع الموضوعي على الوجود المادي فقط بينما تخطت الفلسفة العقلية والالهية في إيمانها بالواقع الموضوعي حدود المادة ليشمل الروح وما فوقها…
وعلى أساس هذه الأجوبة المختلفة عن السؤال الثاني الذي يستفهم عن قيمة المعرفة صار لدينا ثلاثة مفاهيم للعالم:

١- المفهوم المثالي للعالم: هذا المفهوم الذي لا يؤمن بحقائق موجودة بصورة مستقلة عن الشعور والإدراك بل هي ليست إلا الواناً من تفكيرنا وتصورنا بمعنى أن الفكر والادراك هو الحقيقة وكل شيء يرجع في نهاية المطاف إلى التصورات الذهنية فإذا أسقطنا الشعور أو ال(أنا) فإن الواقع كله يزول.

٢- المفهوم الواقعي المادي للعالم: وهذا المفهوم يؤمن بالواقع في حدود المادة المحسوسة، فالمادة هي القاعدة الأساسية للوجود.

٣- المفهوم الواقعي الإلهي للعالم: وهذا المفهوم يؤمن بالواقع الموضوعي ولا يقف عند حدود المادة المحسوسة بل يتخطاها إلى سبب فوق الروح والطبيعة.

ونعود إلى السؤال الأول الذي يستفهم عن المصدر الأساسي للمعرفة…
وحيث أن المعرفة الحصولية تنقسم إلى معرفة تصورية ومعرفة تصديقية، فهذا يعني أن لكل قسم مصدره الأساسي وقبل الخوض في مصادر التصور والتصديق لابد من التعرض للتصور والتصديق ولو بصورة مختصرة..
ما هو التصور؟
هو أحد قسمي العلم الحصولي.
ما هو العلم الحصولي ؟
هو حضور صورة الشيء عند الذهن.
فالتصور هو علم حصولي.
والتصديق هو علم حصولي أيضا.
ولكن التصور لا يستتبع إذعان النفس وتصديقها.. بمعنى ان الصورة الذهنية لا تكون سببا لإذعان النفس وتصديقها كتصورنا للماء، فإن الصورة الذهنية للماء لا تستلزم تصديق النفس وإذعانها…
أما التصديق فهو يستتبع إذعان النفس وتصديقها، بمعنى أن الصورة الذهنية تكون سببا لإذعان النفس وتصديقها… فإن تسمية هذا النوع من العلم الحصولي بالتصديق هو تسمية الشيء بأسم لازمه، واللازم معلول، فالتصديق هو معلول لهذه الصورة الذهنية..
فالتصديق هو تصور يؤدي إلى تصديق النفس..
أما التصور فهو مجرد تصور ساذج…
اذن التصور الذي يكون سببا لإذعان النفس وتصديقها يسمى اصطلاحا (التصديق)
والتصور الذي لا يكون سببا لإذعان النفس وتصديقها يسمى اصطلاحا (التصور)…
إن التصديق له متعلق واحد وهو النسبة في الخبر عند العلم بمطابقتها للواقع او عدمه؛ مثال ذلك..
بغداد عاصمة العراق..
إن نسبة (عاصمة العراق) إلى (بغداد) تسمى النسبة في الخبر ونحن نتصور هذه النسبة في الذهن وعلى ضوء علمنا بمطابقة هذا التصور للواقع أو عدمه يحصل للنفس إذعان وتصديق بحيث نستطيع أن نؤكد الخبر أو ننفيه فنقول أن هذا الخبر صادق مادامت النسبة في الخبر مطابقة للواقع…
ونستطيع أن نقول أن الخبر كاذب ما دامت النسبة في الخبر لا تطابق الواقع كقولنا بغداد عاصمة الجزائر.
والنسبة في الخبر هي عبارة عن صورة ذهنية قد تطابق الواقع وقد تخالف الواقع…

ما هو المصدر الأساسي للتصور؟
اختلفت أجوبة الفلاسفة عن هذا السؤال فهناك عدة نظريات اذكرها بإختصار:
١- نظرية الاستذكار الافلاطونية: وهي النظرية القائلة بإن الإدراك عملية استذكار للمعلومات السابقة وصاحب هذه النظرية هو أفلاطون.

٢- النظرية العقلية: وهي لعدة من كبار فلاسفة اوربا كديكارت وكانت وغيرهما وتتلخص هذه النظرية في الاعتقاد بوجود منبعين للتصورات: أحدهما الاحساس والآخر الفطرة.

٣- النظرية الحسية: وهي النظرية القائلة: أن الاحساس هو المموّن الوحيد للذهن البشري بالتصورات والمعاني.

٤- نظرية الانتزاع: وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامة. وتتلخص هذه النظرية في تقسيم التصورات الذهنية إلى قسمين: تصورات أولية وتصورات ثانوية.
فالتصورات الأولية هي الأساس التصوري للذهن البشري.

ما هو المصدر الأساسي للتصديق ؟
هناك ثلاثة مذاهب اختلفت في الجواب عن هذا السؤال وهذه المذاهب هي :

١- المذهب العقلي: وهو المذهب الذي يؤمن بوجود معارف عقلية ضرورية سابقة للحس والتجربة وابرز فلاسفة هذا المذهب العقلي هم سقراط وافلاطون وارسطو والفلاسفة الإسلاميون كلهم هم من اتباع هذا المذهب وقد ساهموا مساهمة عظيمة في تطوير هذا المذهب العقلي..
إن المنطق الأرسطي هو من أهم ركائز هذا المذهب العقلي بل من المستطاع القول أن المنطق الأرسطي هو المذهب العقلي بعينه…
إن المذهب العقلي في جوابه عن المصدر الأساسي للتصديق يرى أن المقياس الأول للتفكير البشري بصورة عامة هو المعارف العقلية الضرورية فهي الركيزة الأساسية التي لا يستغنى عنها في كل مجال ويجب أن تقاس صحة كل فكرة وخطأها على ضوئها.
ويرى المذهب العقلي أيضا أن السير الفكري يتدرج من القضايا العامة إلى قضايا أخص منها، من الكليات إلى الجزئيات…

٢- المذهب التجريبي: هو المذهب القائل بأن التجربة هي المصدر الأول لجميع المعارف البشرية، ويستند في ذلك إلى أن الانسان حين يكون مجردا عن التجارب بمختلف ألوانها لا يعرف اي حقيقة من الحقائق مهما كانت واضحة، ولذا يولد الانسان خاليا من كل معرفة فطرية!!!
فالتجريبيون لا يعترفون بمعارف عقلية ضرورية سابقة على التجربة!!

٣- المذهب الذاتي: ومؤسس هذا المذهب هو السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس الله سره) حيث استطاع أن يتناول قضايا ومسائل نظرية المعرفة و قد فسرها على ضوء المذهب الذاتي للمعرفة وهذا ما تكفله القسم الرابع من كتابه الأسس المنطقية للاستقراء وقد تكفل القسم الثالث من الكتاب صياغة المذهب الذاتي للمعرفة…
لقد أشار السيد الصدر في بداية الستينات من القرن الماضي لهذا المذهب الذاتي من خلال ابحاث الخارج في علم أصول الفقه ومن خلال مجموعة مقالات نشرت في ذلك الوقت..

وكان يعبر عن هذا المذهب بالمنطق الذاتي في مقابل المنطق الأرسطي والمنطق التجريبي…
ومن نافلة القول التي ينبغي ذكرها في هذا المقال هو أن السيد محمد باقر الصدر قد تناول مسائل نظرية المعرفة وقضاياها من خلال مؤلفاته على ضوء مذهبين هما المذهب العقلي كما هو الحال في كتاب فلسفتنا..
والمذهب الذاتي من خلال كتاب الأسس المنطقية للاستقراء…
فالشهيد محمد باقر الصدر بالرغم من تبنيه للمذهب الذاتي من خلال مقالاته وأبحاث الخارج في الأصول الدورة الأولى إلا أنه كان يدافع عن المذهب العقلي في ذلك الوقت!!
وبعد أن نجح في التصدي للتحدي العظيم الذي تعرض له المذهب العقلي من قبل أنصار المذهب التجريبي المادي والذي لم ينجح الكثير من فلاسفة المذهب العقلي في الرد الحاسم على مزاعم المذهب التجريبي الذي تجسد بالشيوعية والاشتراكية التي هيمنت على العالم سياسيا وثقافيا واقتصاديا وقد شاركتها في الهيمنة ايضا الرأسمالية وكلاهما اي الشيوعية والرأسمالية هما من أنصار المذهب التجريبي…
فكانت محاولة السيد محمد باقر الصدر الناجحة بكل ما تعنيه الكلمة من خلال فلسفتنا هو انتصار للمذهب العقلي الذي يمثل الفلاسفة الإسلاميون سواده الأعظم..
فالسيد محمد باقر الصدر لم يرغب في أن يهتم في إظهار مذهبه الذاتي بل صبر طويلا على ذلك…
وبعد أن تصدى بنجاح لذلك التحدي العالمي الخطير سمح لنفسه أن يكشف النقاب بصورة كاملة عن مذهبه الذاتي من خلال كتابه الرائع البديع الأسس المنطقية للاستقراء في سنة ١٩٧٢ وهذا يدل على مدى الموضوعية ونكران الذات والحكمة التي كان يتحلى بها الشهيد محمد باقر الصدر…
يقول السيد محمد باقر الصدر في أحد مقالاته التي نشرت سنة ١٩٦٤ واصفا المنطق الذاتي:
(( إن وظيفة المنطق الذاتي بالنسبة إلى المنطق الأرسطي هي وظيفة التكميل بينما وظيفته بالنسبة إلى المنطق التجريبي هي التأسيس العقلي والفلسفي)) أنتهى
فهذا الكلام خير شاهد على أن السيد محمد باقر الصدر قد أسس المذهب الذاتي قبل سنة ١٩٧٢ بسنوات عديدة…
———————————–