23 ديسمبر، 2024 10:33 م

لا يمكن لأحد مهما كنت درجة الوعي لديه أن يتصور إن الديمقراطية في أي جانب لها تعني الفوضى والصراخ بصوت عالي ولا يمكن أن تكون الحرية في أن يسلك الفرد أو الجماعات الحزبية أو الكتل السياسية ما تراه مناسبا لمصلحتها في تجاهل تام لمصلحة الوطن فحرية الفرد أو المجموعة تتوقف بلا شك إذا اصطدمت أو تقاطعت مع رأي المجموع الوطني الذي يراعي احترام الأنظمة والقوانين التي اقر بها المجموع ومهما يكن انتماء الفرد الفكري وولائه لا يمكن تغليب أي انتماء على الانتماء الوطني لأي سبب خصوصا لدى الجماعات أو الأحزاب التي تشارك في السلطة فالوطن ومصلحته لهم الأولوية في كل شيء ويعتبر قانون البلد ودستوره هو الحكم في الفصل في أي اختلاف يمكن أن يقع بين الإفراد والجماعات .

في حال ضعف القانون يتولد لدى الجميع قناعة في التمرد على الحكومة التي تعتبر المنفذ الحقيقي لبنوده ويلجأ الجميع إلى أعراف وقوانين ينبغي لها أن تكون قد ذابت أو تلاشت ضمن دستور البلاد فتسود قوانين الطائفة أو العشيرة وعندها تتولد شرذمة اجتماعية وتفتت لأبناء الوطن الواحد مهما كان نوع الحكم مركزيا أو اتحاديا أو أي شكل آخر وتسود شريعة القوة ويصبح الانفلات في كل مناحي الحياة أمرا طبيعيا والسمة الغالبة في البلد وتكون المرجعية أما للمصلحة الأنانية أو لمصلحة الأجنبي الذي يحاول استغلال أي فراغ ويفرض هيمنته على الداخل عن طريق من يجندهم لمصلحته ويمدهم بالدعم وكل أسباب القوة.

لقد مر العراق بعد عام 2003 اثر الاعتداء الأمريكي على سيادته وإسقاط نظام الحكم فيه بغض النظر عن كونه دكتاتوري أو ديمقراطي أو وطني إلى فوضى عارمة طبعا مقصودة وهي جزء مما خططت له إدارة الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش الابن فكانت مفتاح أدى في محصلته لانفلات امني في اغلب دول المنطقة القسم منها تمت السيطرة عليه بطريقة أو بأخرى كما حصل في مصر والقسم والآخر لا زال إلى هذه اللحظة يعاني من نفس الأعراض بل وان بعضها صار ساحة حرب رغم إن نظامه السياسي لا زال باقيا كما هو الحال في سوريا واليمن وقبل الدخول في الموضوع لابد أن نعرف إن الولايات المتحدة الأمريكية تخوض حروبها وتضحي بالمرتزقة أو ممن يحاول الحصول على الجنسية الأمريكية فان قتل فلا يهمها وتخلصت منه وان نجا من الحروب فهو قد اعد الإعداد المناسب ليكون مواطن أمريكي منضبط ومدافع حقيقي عن مصالح دولته الجديدة وقد اختبرته في رعاية مصالحها الحربية ونجح في امتحان عسير في نفس الوقت الذي انتفعت هي من المعارك ماديا عن طريق تصريف أسلحتها واختبار كفاءته القتالية غير تحقيق تأكيدا إضافيا لقيادتها للعالم وسيادتها عليه أي إنها في كل الأحوال المنتفع وعلى الجانب الآخر فان ساحة الحروب هي بلادنا البعيدة عن الأراضي والموطن الأمريكي الذين يبقون في مأمن تام ومواطننا هو وقودها وأموالنا مستنفذة على غير مصالحنا ونحن نعيش في ضنك العيش ومرارة التخلف الحضاري إضافة إلى صراعاتنا البينية .

في اغلب هذه الدول أو في الأصح في جميع الدول التي تولدت فيها حالة جديدة توصف بأنها فراغ سياسي لانعدام القيادة الواضحة ذات الخبرة المناسبة في إدارة شؤون البلد وان توفرت فإنها تفتقر إلى الخبرة في الحكم وان كانت تحمل نظريات فكرية فإنها تحتاج إلى وقت مناسب تخضع فيه إلى التطبيق والاحتكاك مع الشارع والمواطن وطريقة فرضها عليه أو إقناعه بها وهذا الفراغ أدى بشكل أو بآخر إلى دخول من يشغله من الخارج وهي ظاهرة فيزيائية طبيعية فأي إزاحة يتولد عنها فراغ يجب أن يمتلئ من الجوانب المحيطة به.

الفراغ السياسي والأمني بقصد أو دونه لم تتمكن أمريكا من ملئه أو تعمدت عليه والقيادات السياسية ضعيفة فأصبحت المنطقة مرتع لقوات غريبة عن الأفكار السائدة في المنطقة فكانت البداية انتقال القاعدة إلى العراق وتلتها انجاباتها الحقيرة الوحشية التي انتهت بأقذرها وحشية قوات داعش التي سيطرت على مناطق واسعة من العراق وسوريا وليبيا ومصر وانتشرت في المنطقة كتنظيمات سرية وعلنية مارست عمليات القتل الممنهجة والمدروسة لا احد يستطيع أن يبريء الولايات المتحدة والأنظمة العميلة لها من رعاية هذه التنظيمات ودعمها بل وأشاعت في كل المنطقة مفاهيم وأساليب جديدة لم تكن معروفة أصبحت أدوات في هدم تقاليد المنطقة وإبعادها عن كل ما هو وطني ويساهم في النهوض والتقدم .

إن من بين أهم نتائج الفراغ التي تولدت في المنطقة جعلها ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات ليس المحلية فحسب بل الدولية أيضا فبعد أن شلت الإرادة الأمريكية حركة الدولة العراقية بشكل كامل مثلا وتدهورت قابليتها العسكرية وتفتيت جيشها ذو التاريخ العريق والقدرات الفذة بات لا يصمد أمام أي اعتداء بحيث تمكنت عصابات خبيثة غير منظمة من دحره وهزيمته واحتلال ثلث مساحة العراق عادت إليه القوات الأمريكية واحتلاله من جديد لا بل أعلنت سلطات إسرائيل إخراجه من قائمة الدول المعادية لها وأعلنت أمريكا على لسان رئيسها ترامب كأنه حديقة أمريكا الخلفية وقاعدة انطلاقها لضرب إيران فما كانت لتتمكن من هذا لولا الوضع المتدهور ناهيك عن الصراع البيني العراقي سياسيا بين مؤيد وداعم للوجود الأمريكي بذريعة الدفاع عن العراق وبين معارض لوجودها مدعوم من إيران التي تتواجد فيه بقوة مؤثرة وتدافع عن نفسها وجعلت العراق خطها القتالي الأول وتعمل بقوة لطردها وهذا عامل إضافي جديد في تفعيل الصراعات الدائرة اليوم بين القوى والأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة وفي قادم الأيام سنرى أحداث ربما تساهم انفراج أزمات وتمهد لخلق أزمات من نوع آخر.