في عالم الرياضيات، يُعدّ الصفر نقطة البدء والنهاية، أصلاً لا يُرى، لكنه يُبنى عليه كل شيء. أما في اللسانيات، فالصفر ليس رقماً فحسب، بل هو غيابٌ ناطق، وصمتٌ دال، ومحوٌ يفتح أفقاً للوجود.

إنه النظرية التي تقول إن

ما لا يُقال قد يكون أبلغ مما يُقال، وإن الفراغ قد يحمل من المعاني ما تعجز عنه الحروف.

تشير نظرية الصفر في اللسانيات إلى العناصر المحذوفة أو غير المنطوقة في البنية اللغوية، لكنها مفهومة ضمناً من السياق. كأن تقول “ذهبتُ”، دون أن تذكر إلى أين، فيفهم السامع أنك ذهبت إلى مكان معلوم أو مذكور سابقًا.

هذا الحذف ليس نقصاً، بل هو اقتصاد لغوي، وبلاغة في الإيجاز، وإيحاء يفتح المجال للتأويل.

ولو جئنا إلى القرآن الكريم لوجدنا فيه بلاغة الحذف وجلال الغياب، بصفته النص الأعلى في البلاغة العربية، والذي يزخر بتطبيقات نظرية الصفر، حيث يتجلّى الحذف بوصفه فناً، والصمت بوصفه بياناً. ومن أبرز مظاهر ذلك:

1. حذف الفاعل أو المفعول:

في قوله تعالى:

﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾ [النساء: 28]

لم يُذكر من خلق الإنسان، لأن الفاعل معلوم ضمناً: هو الله.

فكان الحذف هنا تعظيماً لقدرة الخالق، وإشارة إلى أن الفعل وحده يكفي للدلالة على الفاعل.

2. حذف الجواب:

في قوله تعالى:

﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأنعام: 27]

لم يُذكر جواب “لو”، لأن المشهد وحده يكفي ليتخيله القارئ، ويستشعر الهول.

فكان الصمت أبلغ من القول، والفراغ أعمق من البيان.

3. حذف المتعلّق:

في قوله تعالى:

﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً﴾ [النبأ: 19]

لم يُذكر لمن فُتحت السماء، لأن المقصود هو الإيحاء بالانكشاف الكلي،

لا التخصيص. فكان الحذف هنا توسيعاً للمعنى، وتحريراً له من القيد.

إن نظرية الصفر في القرآن لا تُستخدم بوصفها نقصاً في البيان، بل هي جزء من نظام بلاغي متكامل، يجعل من الغياب حضوراً، ومن الحذف دلالة، ومن الصمت لغة.

فالصفر هنا ليس خواءً، بل هو امتلاءٌ غير مرئي، كجذرٍ تحت الأرض، يغذي المعنى من حيث لا يُرى.

في ضوء هذه القراءة، يتبيّن أن نظرية الصفر ليست مجرد تقنية لغوية، بل هي فلسفة في التعبير، ورؤية في بناء المعنى.

والقرآن الكريم، في تجلّياته البلاغية، يجعل من الصفر أداةً للسمو، ومن الحذف وسيلةً للبيان، ومن الغياب حضوراً يملأ القلب قبل العقل.