نظرية الصفر اللغوي بين الواقع والطموح

نظرية الصفر اللغوي بين الواقع والطموح

تعد نظرية الصفر اللغوي
من النظريات اللسانية والتي تخبرنا عن اللغة العربية بسرّ عجيب، وهو
اللغة أحياناً تتكلم بالصوت، وأحياناً بالصمت.
فليست العلامة دائماً حرفاً منطوقاً أو شكلاً مرسوماً، بل قد تكون غياباً مقصوداً يفهمه السامع كما يفهم الكلام.
وهذا ما يسمّى بـ الصفر اللغوي وهو أن تؤدَّي وظيفة نحوية أو صرفية
من غير أن يظهر لها أثر في اللفظ
وفي اللغة، كما في الحياة، ليس الحضور وحده هو ما يعبّر، بل الغياب أيضاً.
أحيانًا تكون الكلمة في صمتها أبلغ من ألف لفظ، وأحيانًا يكون ما لم يُقَل هو عين ما نحتاج أن نسمعه. ومن هنا وُلدت فكرة الصفر اللغوي، حيث يصبح الغياب علامة، والسكوت دلالة، واللاشيء لغة.
حين نقول: جاء محمد، ندرك أنّ الفعل للمفرد، رغم أنّه خالٍ من علامة ظاهرة تشير إلى المفردية. هذا الغياب ليس عجزاً، بل هو اقتصاد لغوي يكتفي بما يوحي به السياق.
وفي جمل أخرى، حين يُحذف الفاعل ويُترك تقديره للعقل، أو يُختصر الكلام ويُستكمل بالمعنى، نجد أنّ الصفر ليس فراغاً، بل حضوراً متخفّياً، يكتمل من خلال وعي المتلقي.
إنّ اللغة، في واقعها اليومي، مليئة بهذا الصمت الموحِي، فهي لا تتكلم فقط بما يُلفَظ، بل بما يُترَك عمداً ليُفهم.
أما في فضاء الطموح، فإن اللسانيين أرادوا من نظرية الصفر أن يفتحوا نافذة جديدة على فهم اللغة، فالمعنى ليس مجرد حروف تُقال، بل هو شبكة تتكون من حضور وغياب، من إشارات ملموسة وظلال خفية.
بهذا المعنى، يصبح الصفر اللغوي دعوة للتأمل في قدرة الإنسان على التواصل بأقل ما يمكن من الجهد اللفظي، وعلى بناء دلالات كاملة من مجرد فراغٍ متروك.
إنّه فنّ من فنون اللغة الخفية، حيث يُصبح الصمت جزءاً من الكلام.
إنّ نظرية الصفر اللغوي تذكّرنا بأنّ اللغة ليست أصواتاً وحروفاً فحسب، بل هي موسيقى الغياب بقدر ما هي نغم الحضور.
هي دليل على أنّ الإنسان يتكلم بلسانه حيناً، وبصمته حيناً آخر. وبين الواقع الذي نراه في الاستعمال، والطموح الذي يسعى إليه الباحث، يظلّ الصفر اللغوي مساحة خصبة للتأمل في سرّ اللغة، وفي سرّنا نحن أيضاً.

أحدث المقالات

أحدث المقالات