مصطلح الاستبداد يعني الطغيان عندما يستبعد العدل والقانون كما قال الشاعر العربي :”انما العاجزُ من لا يستبد”…وهوليس جديداً على الناس أجمعين. فمنذ نظرية الانفصال الكوني وتكوين المخلوقات على سطح الارض تولدت معها نظرية الاستبداد، وحكم الغابة ،حين بدء الوجود وظهرت حركة الزمن ، فحل سلطان الفعل الانساني الغالب بقدرة المقتدر وضعف المستضعف. ورغم اننا لا نملك وثائق مكتوبة ولا ادلة تاريخية محفورة لما حصل للمخلوقات قبل ان يُخلق آدم ، فقد بقيت تلك الفترة مجهولة لا نعرف عنها سوى الحدس والتخمين،والقصَص القرآنية هي المصدر الوحيد لدينا اليوم..رغم ان الدراسات الآثارية المعاصرة بدأت تكشف عنها الكثير..
من هنا نقول ان محور الوجود الانساني هو آدم ابو الانسانية وابوالتاريخ وليس ابو البشر- فرق بين البشر والأنسان- به بدأ التاريخ الانساني وما قبله لم يكن سوى وجود فيزيولوجي هو المخلوق المجهول الذي لانعرف عنه شيئاً.،أما النبوة بدأت بنوح ومنه بدأ التجريد (انا أوحينا اليك كما أوحينا الى نوح والنبيين من بعده….. النساء 163) ). لذا نرى ان قوانين تحكُم سير البشرية بدأت من هنا ، اي من بعد وجود آدم، حين حاول الانسان العثور على قواعد تَحكم سير الحوادث او اسباب قيام حركة التطور الانساني ، وما مرت به من احداث. فظلت كلها تأملات عاشت حية في أذهان الناس دون معرفة سر الوجود، وكيف خُلق؟ وكيف تكائر؟ وكيف بدأ يتكون ؟ كلها أقاويل بنيت على التصورات لا على الحقائق العلمية..بدليل ان أنسان النياندرتال وجد قبل ستتة الاف سنة في الصين قبل ولادة آدم ابو الأسنة..ولا زالت الدراسات عاجزة عن التحديد.
ولاننا لا نملك الدليل المادي لدراسة الانسان وسيطرة القوي على الضعيف واخضاعه لارادته سوى ما نقرأه من لمحات في القصص القرآنية التي نعتبرها المصدر التاريخي الوحيد كشاهد حي على ما نقول.يقول الحق: (لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب،يوسف111).وحتى نتبين بداية الاستبداد والقوة انظر الاية رفم 258 من سورة البقرة التي اشارت الى عدم معرفة الخلق بالنظام والقانون وحقوق الناس .. وتمثل في حوار ابراهيم مع من كانوا يحاججونه في الخلق ففرضوا ارائهم بالطغيان الفردي والجماعي دون مراعاة لحقوق الاخرين..ولازلنا نتعايش مع نظرية القرآن عند المسلمين الى اليوم دون توضيح ..وهذا الذي وضعنا في سجن رهيب اصبح الأفلات منه صعب وبعيد.
ان طرح شعار حاكمية الله عند الخوارج،ألذي ألغى بدوره كل مفهوم للخيار الانساني هو شعار أنساني مبتكر وليس ربانياً مقدر، ما عدا وحدانية الخالق.،لقد تأصلت هذه النظرية عند الفراعنة حين اعتبروا الانسان عبداً مطيعاً لهم عليه كل الواجبات بلا حقوق ،ويتجلى ذلك من المحاورة التي دارت بين الفرعون وموسى.حين حاول موسى اقناع الفرعون بضرورة الاعتراف بحقوق الناس دون تمييز ، فيرد الفرعون عليه قائلاً 🙁 …اني لأظنك يا موسى مسحورا،الاسراء 101)، فيرد القرآن على لسان موسى : “واني أراك يافرعون مثبورا الاسراء 102”) . حتى انبهر الفرعون من كلامه رغم ان موسى لم يكن فصيح اللسان بمقدرة أخيه هارون 🙁 واخي هارون هو أفصح مني لساناً،القصص 35).
واستمر الحال في عهد المسيحية رغم دعوة السيد المسيح الى المحبة والاخاء والحكمة ونبذ الاقتتال والحروب والمساواة بين الناس( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل آل عمران 48). ورغم اعتناق الرومان للمسيحية ففد ظلوا من المستبدين، حين جعلوا الروماني فوق غيره بحكم القانون وقانونهم يخدم الامبراطور ولا يخدم عامة الناس. وتباهى الصينيون بالافضلية على غيرهم من الشعوب .. وما بناء سور الصين الا لانهم ارادوا ان لاتُدنس اقدام الاخرين ارضهم وترابهم،فهم يعتقدون بأفضليتهم على العالمين ..ولا زالت المرأة الصينية الى اليوم لا ترغب الزواج من غير الصيني الا في الحالات الاضطرارية المحدودة جدا.أما الهنود ،فقد نشئوا على التفريق الاستبدادي في الطبقات حين فضلوا طبقة البراهمة على غيرها من الطبقات الاخرى. وظلت عقد الجنس الاستبدادي تنتقل بين الشعوب حتى جاء الاسلام في القرن السابع الميلادي ،فهل تغيرت الظاهرة أم .. ماذا ؟
عندما جاء الاسلام ،جاء ليعلن نهاية العصور القديمة التي كانت السيادة فيها على الناس لطبقة محدودة ،تملك زمامهم ،وتتصرف في أموالهم،وتحجر على حرياتهم،وتعتدي على دمائهم دون ان تخشى رقيباً او حسيباً.. فحين جاء الاسلام جاء ليقول للناس حكاماً ومحكومين ان هناك رقيباً هو الله..وانه جاء بمبادىءأخلاقية أرسى دعائمها في أيامه الاولى. وهي مبادىء دينية سياسية، فالاعتصام بحبل الله أمروليس خياراً (وأعتصموا بأمر الله جميعا ولا تفرقوا،آل عمران 103)،.ووحدة الامة أمر وليس خيارأ(ان هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون،الانبياء 92).. لذا لايجوز لاية جماعة ان تتصرف كيفما تريد ولاي سبب من الاسباب..فكيف تتصرف اليوم مؤسسة الدين بالمسلمين بمذاهب ومعتقدات لا اصل لها في الاسلام والتشريع .؟
ألم يكن ذلك مخالفة لأمر الله..منذ البداية..ليس من حق أحد ان يقول ان الدولة الاسلامية نشات وفق نظرية القرآن ..فلا تصدقه أبداً.
لكن الذي حدث ان بعض المسلمين تصوروا ان العقيدة الدينية هي عقيدة دينية فحسب ،بينما هي في ذاتها قواعد سياسية ،فالدين معناه منهج الحياة المتكامل عقيدة وشريعة واسلوب حياة . فالمنهج الاسلامي يقوم على المساوة الكاملة بين افراد الامة،فلا يتميز حاكم على محكوم الا بما يقتضي به الشرع ،لان الله لم يميز بين ابناء البشر “كلكم لآدم وآدم من تراب.حديث نبوي مستند على الأية 13 من سورة الحجرات.” وهذا الانتماء ليس عرقي وأنما معنوي … والشريعة الاسلامية تسوي بين الحاكم والمحكوم في سريان القانون ،يقول الحق : أيها الناس أتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة… النساء 1″ لذا فالحاكم لا يتمتع بصفة القداسة ولا العصمة ابدا ،لذا فقد نفى القرآن حتى عصمة الانبياء :”.يا ايها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. وان لم تفعل فما بلغت رسالتك والله يعصمك من الناس”المائدة 69″..هنا العصمة في الرسالة وليست بشخص الرسول نفسه..والانبياء والرسل .. لا يعلمون الغيب..”لو كنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير الأعراف 188″،واذا ما خرج الحاكم على نهج الشريعة وجب على جماعة المسلمين الوقوف في وجهه وعزله عن السلطة او الثورة عليه وازاحته من ساحة الحكم بالقوة والعنف. وما الاحاديث النبوية الا ابتكاراً لخدمة السلطة لا الناس..اذن هم والنص في تناقض مستمر..”.
أما ان المسلمين لم يلتزموا بهذه النهج التشريعي فالذنب ليس ذنب الاسلام بقدر ما هو ذنب من تعهد بتطبيقه على الارض وعلى الناس معا. وعندما تعقدت الامور بعد السنة الخامسة للهجرة ،وخوفا من عدم التطبيق القانوني والاخلاقي للعقيد ة الجديدة أصدر الرسول وثيقة المدينة المكتوبة من سبعين مادة “أنظر الوثيقة في المتحف البريطاني” ألزم فيها اتباعه في التطبيق،لكن هذه الوثيقة تم أخفاؤها بعد الفترة النبوية مباشرة سنة11 للهجرة لأغراض شخصية فوقعت الدولة في فوضى الاجتهادات الفردية الفقهية التي تخدم الحاكم ولا تخدم عامة الناس والى اليوم،بعد ان اصبحت السلطة هي الاسلام أسماً وليس مبادئه الحقة التي جاءت ملزمة التطبيق…فغابت المبادىء الدستورية عن الناس.
حتى اصبح الحاكم يحنث اليمين دون مبالاة كما نراه اليوم في عهد الحكام العراقيين.
اذن لابد لنا من ان نبين ان ربط الاسلام بالاشخاص عملية خاطئة ..حالت دون تحويله الى مؤسسات ، فظل مربوطا بشخص الحاكم وليس بمؤسسات الدولة المدنية منذ عهد الخلفاء الراشدين وحتى اليوم. ولم يقدم الاسلام مؤسسات سياسية تضمن حرية الرأي والراي الاخر في التنفيذ، مما افقد القضاء فقهه الدستوري الذي يُنظم بنية الدولة وشرعيتها،هذا الغياب ادى الى ظهور مؤسسة الاستبداد السياسي ..ممثلة بالحاكم الأمر ومرجعيات الدين المتخلفة حين بقي الخليفة يحكم دون تحديد مدة او مدى سلطان.
من هنا استمرت تصفية معارضة الرأي المضاد.. والحاكم اصبح مطلقا لا يخضع للمحاسبة والمراقبة.. وبيت المال تحت اشرافه المباشر .. وقد ظهر هذا بشكل واضح ومباشر حين ضربت الشورى وانتقل الحكم للتعيين.. وأستمر حتى سقوط الدولة على عهد المغول عام (656 للهجرة).. وأستمر النص الديني لا يشكل المعيار الحقيقي الوحيد للسلوك السياسي حتى بعد زوال المغول.هنا بدأ الانحراف وعاد خط الاستبداد من جديد،فبدأت تظهر تيارات الانحياز نحو القوة لا نحو العدالة الاجتماعية ،وكأن لا اسلام جاء ولا نبي ظهر..ولا أزمات حلت بالمسلمين ودولهم ..فلا نحن مسلمون ونطبق النص..ولا نحن بلا دين لنطبق السياسة..فضاع المجتمع وتخلف كما نرى اليوم..حتى اصبحت نظرية الاستبداد عند المسلمين ..عقيدة.
لقد تمثل الانحراف الاول بخط الارجاء مؤسساً لخط الضعف ،ثم جاء خط الجبر نتيجة نظرية القضاء والقدر الذي وضعت المسلم في اطار الاستسلام لكل شيء ،أي ان كل ما يحصل له فهو مكتوب عليه سلفاً.فاصبحت الاعمار والارزاق والاعمال مكتوبة ومحددة بزمن “وما تشاؤون الا ان يشاء الله،التكوير 29″ متناسين الايات المكملة لها والقصد منها تحقيق الحق والعدل ففسروها لصالحهم خطئاً.. ،فبقي الانسان جامدا دون حراك.وهذا الاتجاه في تعريف القضاء والقدر هو بصمة الاستبداد السياسي الخطيرة على العقيدة الاسلامية .فلا احتجاج على حاكم ولا فقه دستوري يحدد شرعية الدولة،فظهر مفهوم الطاعة العمياء للحاكم دون نقاش (متمسكين بالاية الكريمة(أطيعوا الله واطيعوا الرسول وألوا الآمر منكم) وآلوا ليس هو الولي بل عامة الناس ففسروا النص خطئاً ..لينتج منه دمجا غير مقبول شرعا وهو طاعة أولي الامر متساوية من طاعة الله. هنا اصبح الفقه الاسلامي خليطا في الاعتقاد بين المعاملات والاحوال الشخصية والعبادات والاخلاق وكما يريدها الحاكم فتفتت الشرعية والرأي الجماعي معا.
وحين نأتي على الحديث النبوي فتلك من اعقد المشكلات،حين دس السم في العسل وكتبت الاحاديث الموضوعة لتأييد سلطة الامويين والعباسيين، وقبلها في تفضيل خليفة على أخر وكان الاسلام ما جاء الا لتعيين هذا الخليفة او الأخر..واجيز أخذ الحديث عن الاطفال ،في حين ان الرسول قال وبعظمة لسانه الشريف بعد فتح مكة :(خلوا بيني وبين الناس ولا تنقلوا عني غير القرآن ،) لأن الرسول كان يدرك الزمن الذي فيه ستزور احاديثه بين الناس وهذا فعلاً ما حدث . اما نقلة الاحاديث من اليافعين فحدث ولا حرج فقد نقل عبدالله بن عباس اكثر من 1696 حديثا وهو لا يتجاوز ابن عشر سنين،وأنس اين مالك اصغر منه بسنة وعبدالله بن عباس لم يعرف النبي ولم يجتمع به ابدا … أنظرمحمد شحرور الكتاب والقرآن… ومن يدعي خلاف ذلك فليعطنا الدليل.
واستخدم النص في قتل حقوق المرأة وتفريقها عن الرجل كما قالوا في أحاديثهم الخاطئة :” لا يُفسد الصلاة اذا مرَوا من امام المصلي الكلب والحمار والمرأة ،انظر الفتاوى” ومئات الأحاديث الأخرى التي تذم المرأة وتمدح الرجل..لا لشيء الا للتوجه الذكوري لما قبل الاسلام.هذا مجتمع يمكن ان يتقدم..وفيه مؤسسة الدين تتحكم في المواطنين.
على هذه الطرقة الخطأ يتم طرح امور الاسلام ويريدوننا ان نلتزم بها وهي كلها من احاديث الاحاد التي نشرها ثلاثة ممن خربوا الاسلام ومبادئه الحقة وهم مسلم والبخاري والمجلسي وبقية المحدثين…من امثال أبن هشام والقرضاوي وغيره كثير..ومن هنا ايضاً نستطيع ان نقول ان المسلمين تركوا الكتاب للسنة وتركوا السنة للائمة الفقهاء حتى اصبح التراث حاجزا بين المسلمين وبين مصادرهم الاساسية.
بعد ان زرع الاستبداد الفكري في رؤوس الناس اصبح الخطأ هو الصحيح وبمرور الزمن لم يعد لاحدٍ ان يعود للصحيح فكانت النكبة المرة التي نعاني منها الان.
لقد جاء ت القصص القرآنية ،ليس من اجل الاخبار،كأي كتاب تاريخ،لكنه جاء ليشرح سنن التاريخ وحركته،فكتب عن فرعون وهامان وكل المستبدين دون ان يلتفت اليه المفسرون ،بل قاموا بشرح نواقض الوضوء ومفسدات الحج والصلاة ونجاسة المرأة والمتعة والتفنن في أيذاء المرأة مربوطاً بعقدة الجنس الذكورية ..وكان المرأة لا جنس لها..؟ومروا على الباقي مر الكرام ،فتركوها دون تفسير.
لقد أنتصرت مدرسة الترادف اللغوي على المدرسة العقلية والعلمية لفهم افضل للقرآن والكتاب والقضاء والقدر ويقف ابن خلدون على راس مدرسة الترادف ،فمنع الاجتهاد في التفسير او نقده فاصبح التراث وكأنه التنزيل المقدس فضاعت علينا الحقيقة والاسلام معاً. ولا زلنا تحت رحمة الاستبداد الفقهي الذي لا يخترق دون تغيير.
ومالم يفصل الدين عن السياسة وتستبعد مرجعيات الدين عن التحكم بالمواطنين كما في الآية الكريمة : (لكم دينكم ولي دين)، وتلغى المذاهب المخترعة ..وتسحب صلاحية الفتاوى من المرجعيات الدينية الا فيما يخص الامور الفردية المحدودة ، لأن الله لم يمنحهم حق الفتوى عن الناس ولم يشملهم بلباس معين اخترعوه لانفسهم لصبغ شخصيتهم بالاحترام والتقديس وهم من أكثر الناس أيذاءا للناس والدين…كما نشاهدهم اليوم في العراق وايران وكل بلاد المسلمين.
وتوحيد الأوقاف بوزارة واحدة ..وألغاء التمايز بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات .. وتوحيد المحاكم الشرعية التي اصلا لا حاجة لوجودها مادامت دولة القانون هي البديل..ويلغى النص الدستوري الذي يقول: “لايجوز سن قانون يتعارض مع التشريع ،واستبدال العبارة :لا يتعارض مع الديمقراطية .. ” والغاء كلمة كردي وعربي ومسلم ومسيحي ويهودي وصابئي وآيزيدي من الجنسية العراقية واستبدلها بكلمة عراقي فقط بعد ان خلقوا لنا نظرية الاستبداد المرتبطة بالطغيان الفردي عن الناس..
لن يتقدم الوطن والمواطن ابداً..الا بأبعاد الحاكم عن التحكم بسياسة النص الديني المفسر خطئاً من قبلهم التي هي اصلا ما جاءت لفرض نظرية الاستبداد من قبل جهلة القانون والدين..التي فرقت بين المواطنين وهم يعلمون علم اليقين :”ان البيت المنقسم على نفسه مهدد بالزوال..”..فالوطن لكل الناس وليس لطبقة المستغلين الفاسدين.