23 ديسمبر، 2024 10:45 ص

نظرية أحمد القبانجي في الإعجاز القرآني

نظرية أحمد القبانجي في الإعجاز القرآني

لا يرى الأستاذ أحمد القبانجي أنَّ هناك مستنداً للقول بوجود الإعجاز في النصِّ القرآنيّ إلا الآيات الدالَّة على التحدِّي ، فلو خُلِّيَ المتكلِّمون والفقهاء وعلماء التفسير وعقولهم لما استطاعوا أن يجدوا من العقل دليلاً على وجود هذا الإعجاز، إذ ليس الإعجاز عقلياً بل هو نقليٌّ، بما أنَّ النصَّ القرآنيَّ نفسه يذكر الدليل على وجود الإعجاز فيه من خلال تحدِّيه أن يؤتى بمثله كما في قوله تعالى: “قل لو اجتمعت الإنس والجنُّ الخ الاية تكمل” .او قوله تعالى : تذكر ايات التحدي
لكننا في معرض الردِّ على الأستاذ القبانجيّ نشير إلى أننا حتى مع التسليم بأنَّ القول بوجود الإعجاز في القرآن كان منطلقه النصّ القرآنيّ نفسه، فإننا لا يمكن أن نعدَّ الإعجاز بسبب ذلك مستنداً إلى النقل فقط، بل هو عقليٌّ أيضاً، لأنَّ العقل لا يمكن له أن يحكم بأنَّ هذا النصَّ تتوفَّر فيه كلُّ عناصر الإعجاز ما لم يعلن النصُّ استعداده للتحدِّي، وهل معنى الإعجاز إلا ذلك، أي أن يعجز المخاطَبون بالقرآن، وهم الإنس والجنُّ بلا استثناءٍ، عن الإتيان بمثله، وإلا كان ادِّعاء الإعجاز فيه كاذباً وليس مستنداً إلى دليلٍ منطقيٍّ معقولٍ على الإطلاق ، والغريب أنَّ الأستاذ القبانجي في الفقرة نفسها يقرِّر أنه: “بالإمكان صياغة هذا الدليل بالشكل المنطقيّ، فيُقال: ((لو كان هذا الكتاب من عند غير الله، لأمكن الإتيان بمثله، لكنَّ الثاني باطلٌ، فالمُقدَّم مثلُه))” ، وهذا يعني أنَّ الإعجاز في القرآن يتضمَّن استنباطاً عقلياً بالضرورة.
ليس الإعجاز القرآنيّ متأتياً من جهة البلاغة، وإنَّ هذه النتيجة تمثِّل إحدى المرتكزات الأساسية في نظرية الأستاذ القبانجي لتوجيه الإعجاز القرآنيّ وجهةً مغايرةً للوجهة التي سار عليها المفسِّرون طيلة التأريخ الإسلاميّ، فيرى أنَّ المعجزة القرآنية كامنةٌ في وجود ((النغمة الإلهية)) التي تبدو “واضحةً وجليةً في سياق كلِّ آيةٍ من آياته وعلى وتيرةٍ واحدة” ، مُستنداً في ذلك إلى ما يأتي:
1-لقد تحدّى القرآن الإنس والجنَّ معاً، ومن المعلوم أنَّ لغات الناس مختلفةٌ وليست هي اللغة العربية فقط، فلو كان الإعجاز بلاغياً كما هي العقيدة السائدة لما أمكن أن يتحدّى بالقرآن العربيّ غير العرب، فإنَّ التحدِّي في مثل هذه الحال لا يبدو منطقياً أو معقولاً، وليس من المتيقَّن أنَّ للجنِّ لغةً هي اللغة العربية، فلا يجوز أن يتحدّاهم القرآن للسبب ذاته، بل حتى لو كانت لغة الجنِّ هي اللغة العربية، فما أدرانا لعلَّ الجنَّ استجابوا لهذا التحدِّي واستطاعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بقرآنٍ آخر أعظم بلاغةً منه، فإنهم موجودون في عالمٍ غير معلومٍ ولا منظورٍ على كلِّ حال.
2-كما لا يمكن التسليم بأنَّ الإعجاز القرآنيّ متأتٍّ من الإخبار بالمغيبات، أو بالكشوفات العلمية، بداهة أنَّ القرآن تحدّى الخلائق أن يأتوا بعشر سورٍ من مثله، بل بسورةٍ واحدة، ومن الطبيعيّ أنَّ هناك سوراً عديدةً في القرآن لا تعنى بهذين الجانبين، فلا هي تخبر بالمغيبات، ولا هي تتحدَّث عن كشفٍ علميٍّ معيَّن.
3-لا يوافق الأستاذ القبانجي على التوجُّه الذي تبنّاه بعض علماء التفسير عبر المراحل التأريخية المختلفة، من أنَّ وجه الإعجاز في القرآن متمثلٌ في الإنسجام بين المحتوى والمضمون وعدم وجود الاختلاف، وتأسيساً على ذلك، فإنه لا يمكن أن يكون وجه الإعجاز متمثلاً في ما اقترحه المفكِّر العراقيّ عالم سبيط النيليّ في العصر الحديث من وجود نظامٍ هندسيٍّ صارمٍ يحكم نسيج النصِّ القرآنيّ من أوَّله إلى آخره ، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: “ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا” ، لأنَّ القرآن “في ظاهره يحوي الكثير من الإختلاف بل التباين (لولا سلاح التأويل)” .
فيتعيَّن أن يكون الإعجاز متأتياً “من أنَّ القرآن لو كان من البشر لوجد الناس فيه اختلافاً كثيراً وتشتُّتاً أكثر في إطار السياق الربوبيّ ونغمة الألوهية الحاكمة على جميع الآيات، فتارةً يُشبه كلام البشر، وتارةً يُشبه كلام الربّ” .
نعم، نحن نتَّفق مع الأستاذ القبانجي حول بعض المسائل المهمَّة التي قام بتفنيدها في سياق الحديث عن بعض النظريات التي حاولت تحديد وجه الإعجاز في النصِّ القرآنيّ، فإنَّ أغلبها كان موسوماً بالتسرُّع والارتجالية في الحقيقة، غير معتمدٍ على دراساتٍ معمَّقةٍ حول موضوع الإعجاز، بل انطلقت إما من نظراتٍ سطحيةٍ كما لو أنها كان همّها الانسجام مع روح العصر في الوقت الذي ظهرت فيه، كتلك النظرية التي حدَّدت الإعجاز بحدود الكشوفات العلمية، وإنَّ بعضاً منها انطلق من مراعاةٍ للحسِّ الجماهيريِّ العامّ، كتلك النظرية التي ركَّزت على البعد الغيبيّ في القرآن فجعلته حجر الزاوية في تفسير الإعجاز.
لكنَّ وجه الإختلاف مع الأستاذ القبانجي يتمثَّل في أنه ساق الحديث عن الحجج التي يمكن أن تدعم القائلين بالإعجاز البلاغيّ في القرآن على وجه الخصوص بشكلٍ اختزاليٍّ مبسَّط، على حين أنَّ لهذا الإتجاه امتداداً غير عاديٍّ في تراث البلاغيين والمتكلِّمين والمفسِّرين، ولقد تضمَّن هذا الإمتداد غير قليلٍ من البحوث والنقاشات التي أغنت هذا الإتجاهوجعلته مهيمناً في الساحة العلمية التي تُعنى بدراسة الإعجاز في القرآن، فعلى الرغم من أنَّ الحجج التي ساقها الأستاذ القبانجي تتمتَّع بالمنطقية والوجاهة، إلا أنها لا تكفي وحدها للوقوف أمام العديد من المناقشات التي يمكن أن تُثار في هذا المقام .
ليس من همِّنا التوسُّع في دراسة هذا الموضوع دراسةً مستفيضةً الآن، لأنَّ مساحة البحث لا يمكن لها أن تتَّسع للإيفاء بمعالجة كلِّ الموضوعات المثارة بطبيعة الحال، لكننا نحبُّ أن ننوِّه إلى أنَّ موضوع الإعجاز بكلِّ مدارسه واتجاهاته، لا سيما الإتجاه البلاغيّ منها، ما زال موضوعاً بكراً، وهو بحاجةٍ إلى المزيد من الدراسات المتخصِّصة والمعمَّقة، وليس من الصحيح أن يظنَّ ظانٌّ أنَّ هذا الموضوع قُتِل بحثاً، ولم يعد بالإمكان قول المزيد فيه، بل إنَّ إغناء البحث في هذا المجال من شأنه أن يُقدِّم الحلول للكثير من الإشكاليات في الدراسات القرآنية والعقائدية واللغوية، ناهيك عما يمكن اجتراحه على أساسها من  المسارات الجديدة في الحقل الخاصِّ بتطوير مناهج البحث في التفسير.
ومع ذلك، فإننا نركِّز على ضرورة مناقشة الأستاذ القبانجي حول نفيه للإقتراح الثالث المتعلِّق بتوجيه الإعجاز وجهةً قصديةً، فعلى الرغم من أنَّ هناك صلةً واضحةً بين الإتجاهات الثلاث (الإتجاه البلاغيّ، وهذا الإتجاه الذي يُعنى بالإنسجام التامّ بين المحتوى والمضمون، والإتجاه القصديّ الذي تبنّاه الأستاذ النيليّ) في تفسير الإعجاز القرآنيّ، لما يمكن تصوُّره من العلاقات المقدِّمية بين كلٍّ من هذه الإتجاهات بالنسبة إلى الآخر، إلا أننا يمكن أن نبرهن على أنَّ الإتجاه الثالث على وجه التحديد استطاع أن يُرسي دعائم نظريةٍ متكاملةٍ في تفسير الإعجاز. هذا من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ  الآية القرآنية المباركة دالَّةٌ بالفعل على تحديد وجه الإعجاز في وجود النظام الهندسيّ الصارم في القرآن، إذ يحقِّق هذا النظام الإنسجام التامَّ بين المتطلَّبات التي يستدعيها إحكام العلاقة بين الشكل والمضمون، كما يحقِّق الإنسجام التامَّ المماثل بين المعاني نفسها من جهة ترتُّب بعضها على بعضٍ بعيداً عن أدنى قدرٍ من التنافر والتناقض، ثمَّ بين الألفاظ والتراكيب اللغوية التي يقترن بعضها  ببعضٍ ضمن علاقاتٍ هندسيةٍ صارمةٍ لا تقبل التخلُّف في الكشف عن المعاني القرآنية المرادة من جهة المتكلِّم، وهي معانٍ تقع في الذروة التي لا يمكن أن يتجاوزها الوعي الإنسانيّ في مراحله التطوُّرية كلِّها إلى يوم القيامة، بل هو يتجاوزه في جميع هذه المراحل التطوُّرية المتصوَّرة، بناءً على أنَّ تلك المعاني يبرهن سموُّها على أنها صادرةٌ من الله المطلق من كلِّ محدِّدات النقص والقصور في الإنسان.
أنا لا أرغب مطلقاً أن يقوم بعض الباحثين بالتشويش على الأفكار، وحرفها عن اتجاهها الصحيح الذي أراده لها المؤلِّف، لذلك فإنني لا أجد ضيراً في أن ينحاز القبانجي إلى الفكرة الشهيرة القائلة بوجود الكثير من الإختلاف والتباين الظاهريين في القرآن لولا سلاح التأويل، وأيُّ ضيرٍ في ذلك بالفعل، ما دام الواقع يشير إلى أنَّ آلاف الدراسات القرآنية إنما استهدفت بجهود مؤلِّفيها رفع التناقض والتباين والإختلاف من ظاهر آيات القرآن، ولولا ذلك لما وُجد كلُّ هذا العدد الهائل من الدراسات القرآنية المعمَّقة في الدراسات في مختلف الإختصاصات ذات الصلة الوثيقة بالقرآن، لهذا فإنَّ الباحث يدعو إلى احترام السياق العامّ للعبارات التي ينطق بها أيُّ كاتبٍ، قبل أن يقرِّر الباحث خوض الحوار معه، خاصَّةً عندما يكون الحوار رهيناً بالوجود الكتابيّ للأفكار، فلا يكون متاحاً للكاتب موضوعِ الدراسة أن يبيِّن وجهة نظره الحقيقية، أو أن يُعدِّل من إساءات القراءة المحتملة التي يقوم بها بعض الباحثين مع شديد الأسف.
لكن يمكن أن تنضمَّ تلك السمة التي اصطلح عليها الأستاذ القبانجي بـ ((نغمة الألوهية))، وعدَّها مائزاً بين القرآن والخطابات البشرية الأخرى مهما كان مستواها الإبداعيّ عالياً، إلى ما عداها من العناصر التي يتألَّف منها الإعجاز القرآنيّ، بوصفها نتيجةً طبيعيةً لتفوُّق هذا الإعجاز في كلِّ تلك العناصر التي يتألَّف منها النظام المحكم للقرآن.
المشكلة مع الأستاذ القبانجي هي أنه لا يفرق بين مسألتين متغايرتين في الحقيقة، حتى وإن بدتا للنظر السطحيّ أنهما متحدتان، الأولى: هي الأحكام الفقهية الواضحة التي يتكفل ببيانها النصّ القرآني، من دون الحاجة إلى استخدام آليات الاستنباط الفقهي أو الاجتهاد، ولا تحتاج في فهمها إلا إلى السليقة اللغوية الاعتيادية التي توجد غالباً لدى الطبقات المتوسطة من المتعلمين، والثانية: هي الأحكام الفقهية التي يستنبطها الفقهاء بمساعدة آلياتهم الاجتهادية المعروفة، والتي يكون للقياس العقلي، سواءٌ ما كان منه مقبولاً في المنطور السني، أو ما كان مقبولاً في المنظور الشيعي، وهو القياس منصوص العلة كما يطلقون عليه في التسمية، أو عن طريق القواعد العقلية المختلفة المعروفة في قسم المستقلات العقلية من مباحث علم الأصول.
هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الأستاذ القبانجي يلتفت أحياناً إلى هذه الخاصية في الأحكام الفقهية، فيندفع في التصريح أكثر، بحيث يطالب بتجميد أو بإلغاء كافَّة الأحكام الفقهية التي تتقاطع مع المرتكزات السياسية والأخلاقية والاجتماعية للحضارة الغربية الحديثة، حتى وإن نادى بها القرآن صراحةً وجعل الالتزام بها شرطاً من شروط الإيمان، من دون أن يناقش النتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب على هذا التصريح، ومنها:
أولاً: إنَّ صحت هذه القاعدة التي يطالب الأستاذ القبانجي بتطبيقها على الأحكام الواردة في القرآن، فإنَّ هذا يعني إمكانية الاستغناء مطلقاً عن النصّ القرآني، فحتى لو كانت بعض أحكام القرآن مطابقةً أو متوافقةً مع الأسس التي تنهض عليها الحضارة الغربية الحديثة، فإننا لا نستطيع أن نمتلك ضماناتٍ مستقبليةً سواءٌ على المدى القريب أم على المدى البعيد، تجعل مسألة التوافق بينهما مستمرةً، بل إنَّ إمكانية التقاطع والتصادم موجودةٌ على الدوام، فإذا صحَّ هذا الاستنتاج، فإنه إنما يعني أنَّ مسألة إلغاء القرآن كله احتمالٌ واردٌ وراجحٌ في جميع الأحوال.
ثانياً: لو تمَّ التسليم بهذا المبدأ الأساسي في أطروحة الأستاذ القبانجي، فإنَّ  هذا يعني –من الناحية النظرية في الأقلّ- جعل الحضارة الغربية وأسسها وما تؤمن أو تدعو إليه من المبادئ والمرتكزات معياراً نقيس عليه إمكانية الأخذ بأحكام القرآن، وليس العكس، ولو في نطاق البلدان الإسلامية فقط، فإن تمت الموافقة على هذا الاحتمال الراجح كانت النتيجة هي فقدان القرآن لضرورة الوجود أصلاً، فضلاً عن عدم التسليم بحاكميته على منظوماتنا الأخلاقية والاجتماعية في مجال المعاملات خصوصاً، وهذا يعني بالضبط سدَّ باب التدين أساساً بالإسلام.
ثالثاً: إنَّ الحجة التي يطرحها القبانجي في المقام، هي ما ذكره في بعض بحوثه من أنَّ ((العقل من شأنه إدراك الحسن والقبح في العمل الأخلاقي ثمَّ يأتي الشرع ويشرع أحكامه على أساس ما أدركه العقل، أي أنّ الشرع تابعٌ في هذه المسألة للعقل فالأصالة للأخلاق أولاً))  تأسيساً على السبيل الذي سلكه المعتزلة في حسم الخلاف بينهم وبين الأشاعرة حول مسألة ((هل أنّ الأخلاق تستوحى من خارج الدين، وهو العقل ـ كما هو رأي المعتزلة ـ أو يجب أن تقتبس من داخل الدين وأنّ العقل لا يدرك لوحده القيم الأخلاقية))  كما هو رأي الأشاعرة،  لكن القبانجي يقفز على المفهوم الخاص الذي طرحه المعتزلة للعقل، فالعقل في نظر المعتزلة دليلٌ داخلي يمكِّن الإنسان من معرفة الخير والشر، ولا قيمة للشريعة المنزلة إلا إذا اتّفقت مع أحكامه، وهو عقلٌ خاصٌّ وليس عقلاً عاماً يمثل كلَّ ما يمكن أن تجود به الظنون والأوهام في عقول البشر، أو قل إنَّ أحكام العقل التي آمن بها المعتزلة هي عبارةٌ عن الأمور الثابتة بالبرهان، فإذا كان العقل مقسَّماً عندهم إلى عقلٍ عمليٍّ وعقلٍ نظريّ، فإنَّ معنى هذا العقل الأخير عندهم هو عبارةٌ عن فعلية النفس باستخراج النظريات عن الضروريات، وتأسيساً على ذلك، فإنَّ حكم العقل الذي هو حجةٌ عند المعتزلة لا يمكن أن يكون على هذه الصفة مالم يحز الشرط الضروريّ والأساسيّ، وهو أن يكون برهانياً قطعياً، فإن كان أشبه بالظنّ، فضلاً عن أن يكون استجابةً لمتطلباتٍ شهويةٍ وسلطويةٍ وغيرها فهو أبعد ما يكون عن استحقاق الوصف بأن يكون حكماً للعقل كما هو واضح . أما لو انتقلنا إلى الشيعة، فإنَّ مفهومهم عن العقل يشترط فيه أن يكون على أعلى المستويات من اليقينية والقطعية، أو لنقل إنَّ المصداق الأوضح له هو عقل الإمام المعصوم، وليس عقل فلانٍ وفلانٍ من الناس، كما حاول السيد القبانجي إيهام القارئ بذلك.
رابعاً: تأسيساً على هذا التوضيح، فإنَّ الحجة التي يلجأ إليها السيد القبانجي في هذا السياق خاليةٌ من المضمون، فلا الأحكام الدستورية الوضعية، ولا حتى لوائح حقوق الإنسان بالضرورة، ولا غيرهما من اللوائح الدستورية والحقوقية والقانونية يمكن لها أن تكون حائزةً على هذه الدرجة من اليقينية والقطعية، فليست هي مشمولةً بالنظر إليها على أنها من أحكام العقل الذي آمن به الفريقان معاً، المعتزلة والشيعة على السواء.
لكن قد يقال في مقام الاعتراض: إنَّ الأحكام الفقهية هي كذلك ليست يقينيةً ولا قطعيةً، بل هي مجرَّد أحكامٍ ظاهريةٍ ظنية، ومع ذلك فإنكم تضفون عليها هذه الصفة، وهي كونها متفقةً مع أحكام العقل، فما الفرق بين هذا وذاك، فلا يجوز التفكيك حكماً بين الحالتين في هذا السياق.
لكننا نجيب:  إنَّ هذه المطابقة صحيحة، لكن في الظاهر فقط، إذ سرعان ما نفهم أنَّ هناك خطوطاً عريضةً تكفَّل برسمها القرآن والسنة النبوية الواضحة من خلال النصوص القطعية التي تتمتع بالظهور الموضوعيّ، ولا مجال للظهور الذاتيّ أن ينحرف بدلالاتها إلى  جهة الحكم الظاهريّ أو الظنيّ، وتشكل الآيات والأحاديث التي تتصف بهذه الصفة قسماً معتداً به منهما، ثمَّ يأتي دور النصوص المتشابهة أو قل النصوص التي لا تتمتع بالظهور الموضوعيّ الواضح بدرجةٍ موازيةٍ للظهور الذي يتمتع به ذلك القسم الهامّ من النصوص، وها هنا يكون فهم هذا القسم من الشريعة مورداً للخلاف بين العلماء، لكن يجب الانتباه إلى أنَّ اختلافهم لا يمكن أن يكون غير مستندٍ إلى آلياتٍ اجتهاديةٍ من علوم اللغة والمنطق وسائر أدوات الاستدلال التي نُقِّحت في مظانِّها، وفي هذه الحالة، فإنه على الرغم من أنَّ هذه الأحكام المستنبطة سوف لا تتمتع بصفة الظهور الموضوعيّ المؤدي إلى الاعتقاد بحتميتها وقطعيتها في مطابقتها التامَّة لمراد الله من تلك النصوص، فإنها سوف تتوفر على صفتي المعذريةوالمنجزية، على أساس استنادها جميعاً إلى بذل وسع المجتهدين في تطبيق تلك الآليات الاجتهادية على تلك النصوص كما هو واضح.
هذا من جهة
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الخلاف بين المجتهدين لا يمكن أن يصل إلى مستوىً خطيرٍ مؤثرٍ على وحدة الشريعة، بل يورثها قدرةً على الاستجابة للظروف الموضوعية المتغيرة من حيث الاختلاف الحاصل من تنوُّع الزمان والمكان، مضافاً إلى أنَّ الموقف من الحكم الظاهريّ من حيث مطابقته أو عدم مطابقته للحكم الواقعيّ هو مورد خلافٍ بين المذاهب الإسلامية، وأشهر تلك المواقف هما موقفا المخطئة والمصوِّبة من المسألة، يتم شرح وجهة نظركل طائفة  ويتم ربط المسالة بالتاويل واختلافه بين القبانجي والاسلاميين
خامساً: بقي أن يقال: إنَّ إلغاء الأحكام الفقهية الواردة في القرآن، بله إلغاء المفاهيم العقائدية أيضاً، بناءً على عدم انسجامها مع المفاهيم التي تتشكل منها الحضارة الحالية، طبقاً لدساتيرها المصاغة في البلدان الأوربية وأمريكا، مسألةٌ في غاية الخطورة فيما لو سرنا معها إلى نهاياتها المنطقية.
توضيح ذلك: إنَّ هناك عدداً كبيراً من الموادّ الدستورية تتقاطع مع عددٍ من الأحكام التي هي ذات صلةٍ بعادات وتقاليد وأخلاق المجتمعات الإسلامية، فلك أن تتخيل قيامنا بإلغاء كلِّ الآيات التي تنصّ على تحريم الخمر والزنا واللواط وما إلى ذلك من الموبقات الجنسية، نحن لا نواجه مشكلةً على صعيد اعتقاد العلمانيين بذلك، أقصد ذلك الصنف الذي لا يستند إلى إعادة تأويل الشريعة للتأسيس للعلمانية منهم، لكنَّ المشكلة تبرز في حالة السيد القبانجي وأضرابه بالذات، لأنهم يقولون بإمكانية التطبيق بين العلمانية إلى هذا المدى المتطرف والقرآن، على أساس أنَّ القرآن إنما جاء ليطابق الأحكام التي تمثل الأطوار العقلية المختلفة للمجتمعات، فكلما وجد طورٌ عقليٌّ تنتج منه منظومةٌ من المباحات والمحظورات الجديدة وجب على القرآن أن ينسخ نفسه ليطابقها، فها هنا يبرز سؤالان:
1-    لماذا التمسك بالقرآن ما دام فاقداً للهيمنة على الأحكام المختلفة التي تولِّدها الأطوار العقلية المختلفة للأجيال، إنَّ الأولوية إنما هي منسوبةٌ لهذه الأحكام كما هو واضح، فليكن الاستغناء عن القرآن مطلقاً إذاً، ولنعلن تخلِّينا عن الإسلام بجرأةٍ على هذا الأساس.
2-    هل سوف تختلف المجتمعات الإسلامية كمّاً وكيفاً في مسألة إلغاء القرآن، بحسب ما تكون عليه حالة كلِّ مجتمعٍ في الطور العقليّ الواحد، من انسجامٍ أو اختلافٍ مع الأحكام الفقهية الواردة في القرآن؟!.
3-    لنفترض أنَّ الإلحاد أصبح هو الفلسفة الطاغية في الحضارة الغربية الحالية، فهل يتوجب علينا أن نقوم بإلغاء الآيات القرآنية التي تنصُّ على التوحيد والنبوة والحياة الآخرة قياساً على هذا المبدأ الذي يتبناه الأستاذ أحمد القبانجي كذلك؟!