23 ديسمبر، 2024 10:49 ص

نظرة في تاريخ العراق السياسي – 1

نظرة في تاريخ العراق السياسي – 1

 في هذه الظروف السياسية العصيبة التي يمر بها العراق ، يدبج الكثير من الكتاب مقالات تؤيد هذا الطرف أو ذاك بدون البحث عن اصل المشكلة وجذورها ، فحتى الطبيب عندما تحدثه عن اعراض مرض مزمن يسألك عن زمن ظهور هذه الاعراض وإن كان في عائلتك من اصيب بها سابقاً .
لايدرك الكثير من الكتاب إن مشكلة العراق (وليبيا واليمن كذلك) هي العقلية العشائرية المتأصلة فينا ، والتي تنتج لنا الاستبداد والفساد والانحراف في السلطة السياسية ، وإن سبب الديكتاتوريات العربية هو ظن الزعيم أو القائد إنه  شيخ العشيرة وليس رئيس الدولة ، ولأن الاستبداد في تونس ومصر كان مدنياً وليس ريفياً فقد كان اقل خشونة وشراسة ، رغم إن منتسبي وزارة الداخلية وافراد الاجهزة الأمنية غالباً مايكونوا ريفيين وليسوا من ابناء المدن ، وذلك لأن ابناء الارياف يشكلون مابين ستين وسبعين بالمائة من اي شعب عربي .
تمتد جذور المشكلة العراقية الى العصر العثماني ، فقد اعتادت العشائر البدوية المقيمة في نجد والاحساء على الهجرة صيفاً نحو الشمال منذ العصر الجاهلي ، وكثير من هذه العشائر اعجبت بمناخ العراق ووفرة مياهه فأقامت فيه بشكل دائمي ، والكثير منهم انتقلوا من مرحلة البداوة الى مرحلة متوسطة بين البداوة والتحضر ، فكانت عشائر جنوب العراق بصفة عامة تقيم لعامين أو ثلاثة تزرع ارض ما ، فإن قلت خصوبتها أو زادت نسبة الملوحة فيها تركتها واستوطنت ارضاً آخرى ، ولا استطيع تحديد أي المحافظات تعرضت لهذه الهجرات البدوية ، إذ إن الدكتور عبد العزيز سليمان نوار لم يحددها في كتابه المعنون (تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا الى نهاية حكم مدحت باشا) ، ولكن من المؤكد أن محافظات ذي قار والمثنى وواسط وربما جنوب القادسية (أو الديوانية) قد تعرضت له ، أما محافظة ميسان فهي مليئة بالاهوار ولا أظن إن ابناء البادية قد استوطنوا في غير اجزائها الغربية المحاذية لمحافظة ذي قار ، أو ربما دفعوا الريفيين المتوطنين قبلهم نحو الشرق والشمال ، أي نحو محافظتي ميسان والديوانية وانتزعوا الاراض الزراعية منهم .
كان الفلاحون في منطقة الفرات الاوسط وبغداد وديالى اكثر استقراراً وثباتاً في اراضيهم وليسوا مثل فلاحي الجنوب القريبي العهد بالبداوة ، ولهذا فعندما تكونت الدولة العراقية الحديثة كانوا الاقرب للأخذ بأسباب المدنية والحضارة من ابناء المحافظات الجنوبية ، والى جانبهم كانت القبائل المستقرة وابناء المدن (بغداد ، الموصل ، البصرة ، النجف) الاكثر تقبلاً للخضوع لسلطة وقوانين الدولة ، في حين ظلت القبائل النصف بدوية في محافظات الجنوب والانبار وصلاح الدين وغربي نينوى ترفض الخضوع لسلطة الدولة أو دفع الضرائب لها ، فهم يقولون إن الارض والمياه هي لله ، فلم تفرض الدولة العثمانية الضريبة عليهم إذا زرعوها ؟؟ .
عندما عينت الدولة العثمانية الوالي مدحت باشا والياً على بغداد ومشرفاً على ولايتي الموصل والبصرة عام 1869 راعه ما رأى ، فلقد كانت ولايات بغداد والموصل والبصرة في وضع متخلف يرثى له ، بل كانت ولايات الشام والبلقان اكثر تطوراً بكثير من العراق ، فعزم على تطوير ولايات العراق وزحزحة التخلف عنها .
اول ما واجه الوالي هي حالة الفوضى والتسيب السائدة في مناطق جنوب العراق ، حيث ضعفت امارة آل السعدون القائمة يومها في مدينة سوق الشيوخ ، والكثير من عشائر نجد والاحساء تدخل الى مناطق الجنوب (سواء للغزو أو للأقامة الدائمة ) بدون رادع ، ولا يوجد دولة أو قانون في المنطقة يحمي الفلاحين . 
قام مدحت باشا بالتفاوض مع الشيخ ناصر السعدون ، ووعده بجعله متصرفاً على المنطقة وتزويده ببعض الجندرمة لمساعدته على ضبط الحدود الجنوبية للعراق من الغارات العشائرية البدوية . كان الشيخ ناصر على خلاف مع اولاد عمومته حول مشيخة العائلة ، وعلم إن تعيينه برتبة متصرف سيقوى موقفه السياسي ازاء اولاد عمه وعامة العائلة ، فوافق على طلبات الوالي .
في ذلك العام (1869) قدم مهندس بلجيكي ومسح المناطق القريبة من سوق الشيوخ ، وبنى مدينة حديثة لتكون مقراً للمتصرفية الجديدة ، واكراماً للشيخ ناصر السعدون سميت المدينة بأسمه أي الناصرية ، وهاجر اليها عدد من الفلاحين والعمال ليقيموا بها ويعمروها ، ويبدو لي إن الاغنية الشعبية المشهورة ( للناصرية بويه للناصرية ، تعطش واشربك ماي للناصرية) التي غناها عدد من مطربي الجنوب قد ظهرت زمن هذه الهجرة .
في العام التالي (1870) وبعد أن عزز الوالي مدحت باشا قواته المرابطة في جنوب العراق ، اتخذ اخطر قرار سياسي في تاريخ العراق الحديث ، وهو اجبار العشائر على الاقامة في نفس الاراضي المقيمين بها ذلك العام ، ومنعهم من الانتقال أو انتزاع اراض من العشائر المجاورة أو القريبة ، وبما إن اكثر من تسعين بالمائة من  الاراضي الزراعية في العراق هي ملكية الدولة ، أي ما يصطلح على تسميته بالاراضي الاميرية ، فقد اصدر مدحت باشا قانون التفويض وسجلها في التسجيل العقاري (الطابو) بأسماء العشائر لتزرعها وتدفع الضرائب عنها ، فصار اسم الاراضي (الاراضي الاميرية المفوضة بالطابو) ، وهكذا تحولت عشائر الجنوب من حالة التنقل الدائمي الى حالة الاستقرار قبل خمسين عاماً فقط من تكوين الدولة العراقية ، ولهذا فعندما جاء الملك فيصل الاول الى العراق وجد مجموعة مجتمعات مفككة متباعدة في عقائدها الدينية وفي افكارها وتوجهاتها السياسية ، وكانت المهمة الخطرة الملقاة على الدولة هي توحيد اقاليم العراق ونواحيه المختلفة وصهرها مع بعضها لتكوين شعب عراقي واحد ، وجعل ابناء القبائل البدوية أو نصف البدوية في المناطق الغربية والجنوبية يحسون بأنتمائهم الى وطن اسمه العراق .
بعد انتهاء ثورة العشرين قام البريطانيون بخطوة خبيثة لربط شيوخ العشائر بهم ، وذلك حينما سجلوا الاراضي الاميرية المفوضة بالطابو بأسماء شيوخ العشائر بعد أن كانت بأسماء العشائر بصفة عامة ، وهذا مما ولد طبقة اقطاعية لم تكن موجودة سابقاً . كما فرضوا على الدولة العراقية الوليدة تنظيم قانون عشائري يعتمد على الاعراف والتقاليد العشائرية ، في حين صار قانون العقوبات الجزائية والجنائية يطبق على ابناء المدن فقط .
كانت سياسة البريطانيين هي تقريب شيوخ العشائر وضمان ولائهم لبريطانيا ، فما دام الشيوخ متنعمين بالمال والسلطة ولديهم مصالح مالية قوية ، فسيمنعون عشائرهم من التمرد والثورة على الانكليز لكي لاتضرر مصالحهم الخاصة ، كما سعى الانكليز لأقناع عشائر الفرات الاوسط والجنوب بأنهم حريصون على مصلحة ابناء الطائفة الشيعية ولن يسمحوا للسنة بالتفرد بالسلطة وهضم حقوقهم ، والغريب إن بعض افندية الشيعة قد صدقوا بهذه الاسطورة ، في حين إنها كانت منذ البداية لدق اسفين بين الشيعة والسنة .
سعت بريطانيا لابقاء الدولة العراقية ضعيفة ومنعها من تشكيل جيش كبير العدد ، كما عرقلت اصدار قانون الخدمة العسكرية الالزامية ، وابقت الجيش العراقي بأسلحة خفيفة غير فاعلة لمواجهة التمردات العشائرية . من خلال هذه السياسة ذات الوجهين ، ارادت بريطانيا أن توازن بين فيصل ووزرائه وبين شيوخ العشائر من جهة آخرى ، فارادت استخدام العشائر المسلحة لتطويع فيصل ووزرائه للسياسة البريطانية .
كان معظم رجالات الدولة العراقية الوليدة هم من العسكريين والموظفين العثمانيين ، ومن الطبيعي أن يكونوا كلهم من السنة ، وكانوا خليطاً من العرب والاكراد والتركمان ، فلما تشكلت الدولة كانت بحاجة الى التوسع وتعيين اعداد جديدة من الموظفين ، وهو مما شجع بعض افندية الشيعة على التوظف لدى الدولة ، في حين ظل اغلبية ابناء العشائر من الشيعة والسنة تبتعد عن مدارس الدولة ووظائفها .
  ظل نمو الادارات الحكومية العراقية يسير ببطء وتمهل طوال فترة العشرينيات ومطلع الثلاثينيات ، ولم تنتشر المدارس الابتدائية إلا في بعض النواحي والقرى ، حيث إن العشائر كانت تتذمر من وجود مركز شرطة أو بريد في مناطقها القبلية ، وتعتبر الدولة ومؤسساتها (وبضمنها المدارس) حالة شاذة فرضها الكفار الاجانب على العشائر المؤمنة !! ، صاحبة شعار (الل ما يحوف مو رجال / أي الذي لا يسرق ليس برجل) .
ببساطة كانت العشائر ترفض وجود الدولة ككيان مهما كان شكلها ونظامها ، فوجود الدولة القوية القادرة على حماية ورعاية مواطنيها واعطاءهم حقوقهم كاملة غير منقوصة سيلغي وجود العشيرة واهميتها في حياة الفرد ، والعقلية البدوية التي رفضت دولة رسول الله (صلعم) وحاربت ضدها سواء في حياة الرسول أو بعد وفاته ، هي نفس العقلية التي ترفض وجود الدولة المدنية الحديثة في القرن الحادي والعشرين ، وتصر على ابقاء قوانين الفصل العشائري ازاء قوانين الدولة .
بعد اعلان استقلال العراق عن بريطانيا ودخوله في عصبة الامم ، استطاع العسكريون القدامى من الضغط على الحكومة والبرلمان لأقرار قانون الخدمة العسكرية الالزامية ، في حين وقف البريطانيون وانصارهم ضد هذا القانون ، واصطف معهم شيوخ العشائر وبعض رجال الدين الشيعة لأسباب مختلفة .
كان العراق كدولة بحاجة لوجود مثل هذه الخدمة ولو كانت لمدة ستة اشهر ، حيث إن خدمة العرب والاكراد والتركمان من سنة وشيعة في وحدات عسكرية مشتركة ، خير سبيل للتعارف وانشاء الصداقات ، وبالتالي يصبح الجيش بوتقة لصهر القوميات والمذاهب ، لكن هذا التعارف والانصهار سيولد مشاكل لرجال الدين الانعزاليين ولشيوخ العشائر ، فكل طائفة ستتاح لها الفرصة للتعرف على ابناء الطائفة الآخرى ، وسيكتشفون إن لديهم افكاراً واراءاً واطعمة وملابس مشتركة ، وسيكتشفون بأن ابناء الطائفة الاخرى بشر مثلهم ولا يوجد لديهم ذيول كما قال لهم بعض المعممين ، اما من ناحية شيوخ العشائر فقد انزعجوا من تحويل ولاء ابنائهم من الشيخ الى الملك ، وانزعجوا من قيامهم بتحية علم الدولة العراقية والقتال تحته ، وبالتالي ستكون الخدمة العسكرية مقدمة لتوحيد وصهر ولاء العشائر نحو الدولة العراقية الجديدة . 
كلما ازدادت قوة الجيش والشرطة استطاعت دوائر الدولة ومؤسساتها من التوغل اكثر نحو اعماق الارياف ، واستطاعت الدولة من مد نفوذها وانشاء ادارات ونواح جديدة في مناطق بعيدة عن المدن ، وبعد تشكيل مركز للشرطة ومقر للناحية ودائرة البرق والبريد تأتي المدرسة الابتدائية ثم المستوصف الصحي .
* لايعلم الكثير من الناس إن اغلب التطورات التي حدثت في العراق الحديث قد تمت اثناء الحرب العالمية الثانية ومابعدها ، فلقد كان انشغال بريطانيا بحربها مع الالمان سبباً لتحول الكثير من المصانع البريطانية نحو الانتاج الحربي ، وبالتالي توقفت مصانع الكبريت (الشخاط) والسكائر والصابون والاقمشة من ارسال منتجاتها الى العراق ، فوجد بعض تجار العراق ووجهائه فرصتهم للعمل الصناعي ، وانشأت مصانع للصابون وعلب الكبريت والاقمشة في العراق اثناء الحرب ، في حين ظهرت مصانع السكائر العراقية قبل الحرب بسنوات ، وقد ادى ظهور المصانع الى امتصاص البطالة وحاجة المدن الى مزيد من العمال .
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تستعد بريطانيا عافيتها بسرعة ، حيث دمرت المقاتلات الالمانية الكثير من مصانعها ومساكنها وبناها التحتية ، فأنشغلت الحكومة البريطانية بأعادة بناء مادمرته الحرب ، واعطت قروض ومنح مالية لاصحاب المصانع لأعادة بناءها خارج لندن ، بل استغلت ظروف ما بعد الحرب لتوزيع المناطق الصناعية على عدة محافظات بدلاً من بقائها متمركزة في لندن وبيرمنغهام ، وذلك لأعطاء فرص عمل جديدة لعمال المحافظات والتقليل من هجرتهم نحو المدن البريطانية الكبرى .
كان العقد الممتد بين عامي 1945 و 1955 الفرصة الذهبية للصناعيين العراقيين ، حيث استطاعوا بيع منتجاتهم الصناعية على الجمهور بسبب قلة المعروض من البضائع البريطانية وغلاء اسعارها . وبسبب حاجة المدن العراقية الكبيرة لمزيد من الايد العاملة في قطاعات الصناعة والبناء والخدمات ، وبسبب الظروف الاقتصادية الصعبة للفلاحين ، تدفقت اعداد منهم على المدن وازداد ظهور اكواخ الطين داخل بغداد وعلى اطرافها الشرقية خاصة .
لقد كانت الاحداث تتسارع بعد الحرب العالمية الثانية بشكل لم يعرفه المجتمع العراقي المتجمد من قبل ، وعمل انتشار المدارس وتخرج اعداد كبيرة من الطلبة من كليات الطب والصيدلة والقانون والادارة والاقتصاد والآداب على تشكيل جيل مثقف جديد متطلع نحو التقدم العلمي والثقافي ، والكثير من خريجي الكليات وجدوا انفسهم عاطلين عن العمل إذ لم تعد لهم الدولة برنامجاً لتوظيفهم بعد التخرج ، وهو مما ادى الى مشاركتهم في الثرثرة السياسية الدائرة في المقاهي ، وانخراطهم في العمل السياسي وانضمام البعض منهم للحزب الشيوعي بالذات .
لم تنتبه الحكومات العراقية المتعاقبة لخطورة ما يحدث ، ولم تنشأ مشروعاً لأعمار العراق إلا في عام 1954 ، في حين كانت التطورات السياسية والاجتماعية الحاصلة في داخل المجتمع العراقي ، وقدوم ابناء الارياف بكثرة الى المدن وظهور طبقة المثقفين العاطلين عن العمل ستؤدي عاجلاً أو آجلاً الى الانفجار ، وهو ماحصل يوم 14 تموز 1958 ، حيث كانت الثورة هي الحل الآخير لحالة الجمود الفكري والسياسي لدى النظام الملكي الذي لم يستطع تطوير نفسه وتقبل التغيرات العالمية الحاصلة من حوله .