يتقلب يوم العراقيين بين ليل مظلم ونهار أكثر ظلاما، وصباح حالك ومساء أشد حلكة، وبين هذا وذاك يأتي بصيص الضوء من كوة أضيق من سم الخياط، لايستشعر به إلا القلة القليلة من الناجين سهوا، او المؤجل إعدامهم لحين إتمام النصاب الشرعي اللازم لإحياء حفلة الإعدام، المزمع إقامتها على مرأى من الحاكمين من ساسته. أما مكان التنفيذ فهو أمر لايستوجب الدراسة والتخطيط، فالأسواق الشعبية مكتظة بالعراقيين المستهدفين جميعهم من دون استثناء، كما ان الجوامع والحسينيات والكنائس على مرمى بصر القائمين بتنفيذ الحكم، وبمتناول أيديهم، ولاضير إن كانت بعيدة، فالدور الآمنة للمواطنين العزل منتشرة في أزقة المدن ونواحيها وقصباتها. وبذا لايمكن الفصل بين ساحة حرب وموت، وساحة سلم وحياة، فالأمر بينهما غدا سيان.
لم يكن ماتقدم من سطور سيناريو مشهد مسرحي، او فكرة فلم رعب، او تهيؤات محتضر، او هلوسة مجنون.. إنما هو قراءة حقيقية سريعة لواقع مرير يعيشه أكثر من ثلاثين مليون شخص، يشغلون مساحة (437,072) كم مربعا، اشتركوا جميعهم باقتسام القلق والخوف من الحاضر ومن المستقبل على حد سواء، كما تقاسموا ضنك العيش والسعي وراء الرزق باحثين عنه لاهثين وراءه في أضيق منافذه، وكانت لهم الحصة الأكبر من التهجير القسري والسفر المحتوم الذي ماكانوا يختارونه إلا كحلّ وحيد، وخطوة لامناص من اتخاذها طريقا الى دول مشارق الأرض ومغاربها، تاركين أهليهم ووطنهم الذي نشأوا وترعرعوا فيه، لعلهم يجدون ضالتهم هناك في العيش آمنين.
ومع كل هذا فالذين ارتأوا البقاء داخل حدود العراق تحت مطارق العيش القلق، والخوف المستديم، والموت المداهم على الأبواب، كانوا قد شكروا الله كثيرا قبل أحد عشر عاما، حين انقشع عنهم مسبب كل هذه المعاناة، إذ انفتحت أمامهم أبواب الأمل على مصارعها، وظنوا أن الحلم في العيش الهانئ الرغيد في بلدهم آن له أوان التحقيق. لكن..! أتت الرياح بما لايشتهون. فصاروا يرددون بيت الشعر:
رب يوم بكيت فيه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
أما لو استقرأنا ما حدث خلال العقد الأخير من عمر العراقيين -الديمقراطي- فلا أظن أن هناك أقسى وأشد رعبا من الذي جرى -ومازال يجري- من تداعيات مؤلمة حد اللوعة والمرارة، وغريبة حد الدهشة والذهول، آخرها أحداث احتلالات الشراذم والعصابات مدنا عراقية الواحدة تلو الأخرى، بشكل لايصدقه عقل إنسان سوي. وقد لاأبالغ في القول انها أشد الصدمات وقعا على العراقيين جميعا، ومافاقم من هول شدتها وعِظَم وقْعها عليهم، هو الخيانات التي ابتدأت من أكبر رأس في محافظة نينوى، ولم تنتهِ بعد بآخرين يتلذذون بأنواع الغدر وأصناف الخيانة، بما لم تعهدها النفس العراقية، التي جُبلت على الشهامة والرجولة والإباء. ولاأظن الشاعر قد تفاخر بالبيتين الآتيين جزافا، لو لم يرَ فينا ما يستحق الإشادة والثناء:
لنا نفوس لنيل المجد راغبة
وإن تسـلت أسـلناها على الأسل
لاينزل المجد إلا في مواطننـا
كالنوم ليس له مأوى سوى المقل