23 ديسمبر، 2024 8:49 ص

نظرة أخرى لمسألة الإتجار بالبشر

نظرة أخرى لمسألة الإتجار بالبشر

تحت عنوان “لا طلب.. لا عرض” أعدّت المخرجة المسرحية سمر عسّاف، وبمبادرة من ” مركز الفنون والآداب Mellon Grant في الجامعة الأمريكية في بيروت بالشراكة مع منظمة ” كفى عنف واستغلال”، مسرحية قدمتها وسط جمهور جلّه من النساء والشباب على مسرح المدينة في شارع الحمرا. المسرحية، التي أعقبها نقاش مفتوح مع غادة جبور مسؤولة قسم الإتجار بالنساء في منظمة “كفى”، تناولت موضوع ” الدعارة” والأفكار المغلوطة عنه، واستندت في ذلك إلى مقابلات مسجّلة مع نساء سوريّات ناجيات من شبكة تجارية مختصّة بالإتجار بالبشر ولاسيّما من النساء، حيث قامت المخرجة عسّاف ذاتها بتسجيل هذه المقابلات بتاريخ 10 ابريل (نيسان) و12 مايو (أيار) 2016 بالتعاون مع غادة جبور.
كما قامت ساندي عيسى وهي مختصة بالصحافة الاستقصائية بتصوير مقابلات مع نساء سوريات ناجيات، إضافة إلى مقابلات مع المقدّم مصطفى بدران الذي اتخذ قرار مداهمة ” بيت الدعارة”، حيث تم احتجاز عدداً من النساء بلغ 75 امرأة. وتابعت المسرحية القرار الإتهامي الصادر بحق الأشخاص المتهمين بالاتجار بالبشر، كما استندت إلى ما يقوله الرجال ” مشترو الجنس″ حول دوافع ممارساتهم وتصوراتهم لعملية الشراء ” الرخيصة” وللمتعة المشتراة، تلك التي وثّقتها بدراسة خاصة. ما يلفت النظر هو الأسلوب المؤثر الذي ناقشت فيه المسرحية بعض الآراء الخاطئة بشأن تجارة الجنس، تلك التي يقترب بعضها من المسلّمات، خصوصاً لجهة شيوعها عن عالم الإتجار بالبشر ولاسيّما بالنساء،وحاولت إخضاع ذلك إلى منظومة فلسفية فكرية، شكّلت خلفية للمسرحية بجميع مفرداتها، والتي وضعت هدفاً لها هو ” مكافحة الاستغلال الجنسي للنساء والاتجار بهن” والهدف الأعمق والأوسع هو “رفع الوعي” إلى خطورة هذه المسألة التي ترتبط فيها قضايا أخرى مثل تجارة المخدرات وغسل الأموال وتجارة السلاح والإرهاب الدولي. وكانت منظمة “كفى” قد أطلقت حملة في العام 2014 بعنوان ” الهوى ما بينشرى”.
ومن الأخطاء التي تكاد تكون راسخة في هذا الميدان هي تلك التي تزعم ” إن الدعارة أو تجارة الجنس هي أقدم مهنة في التاريخ” ولكن المهنة تتطلّب تأمين الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية والأمن الذاتي، ومثل هذا الأمر مفقود في عملية بيع وشراء الهوى، حيث تتعرّض نسبة كبيرة من النساء إلى أشكال العنف المادي والمعنوي، فضلاً عن العنف الجنسي على يد مشتري الجنس والوسطاء وغيرهم. وتشير إحصائية إلى أن نسبة الوفيات من النساء اللواتي يتعاطين هذه المهنة هي أكثر من 40 بالمئة لدى غيرهن، لذلك إن قدِمْ هذه المهنة لا يبرّر القبول بها كظاهرة حتمية للمجتمعات، وإلاّ فإننا سنقبل بالجريمة بوصفها موجودة منذ القدم.
إن هذه المهنة هي ليست مهنة اختيارية للنساء، وإنما هي اضطرارية ومفروضة وأحياناً بسبب غياب الخيارات الأخرى، والغالبية الساحقة من النساء دخلنها وهنّ دون السن القانوني بسبب الفقر والحاجة وظروف اجتماعية واقتصادية وشخصية قاسية، الأمر الذي يتنافى مع مبدأ الخيار الحر. ويتم الترويج أحياناً إلى إن مثل هذه الممارسة الجنسية، هي من قبيل الحرّية وهي حق للمرأة للتصرّف بجسدها، لكن الظروف التي تجبر المرأة على ممارستها، ولاسيّما الحاجة إلى المال تجعلها خاضعة للرجل الذي يعبّر عن ذكوريته وتسيّده في شراء الجنس. وأشارت دراسة لمنظمة كفى إن 80 بالمئة من مشتري الخدمات الجنسية، هم من الذين يشاهدون أفلاماً جنسية ويحاولون تمثيلها مع النساء من خلال شراء الجنس. وتبرّر بعض الأطروحات الخاطئة إن الرجل بحاجة إلى تعدّدية الممارسة الجنسية لأنه لا يستطيع السيطرة على شهواته، الأمر يدفعه لتبرير شراء الجنس، وتلك مسألة تشكّك بها الدراسات الاجتماعية والنفسية، مثلما تقول وجهة نظر أخرى خاطئة لو لم تعرض المرأة جسدها للبيع، فسوف لا يجد الرجل الخدمات الجنسية لشرائها، مثلما هناك وجهة نظر أخرى تقول إن تحريم تجارة الجنس يجعلها سرّية أو غير مرئية، الأمر الذي يحمل فكرة خاطئة تدعو إلى ترخيص بيعه، بمبرر إنه سيبقى تحت الرقابة ومقنن شرعياً.
وحسب القانون الدولي فإن الإتجار بالأشخاص بهدف الاستغلال الجنسي محرّم، خصوصاً استغلال الضحايا وأوضاعها الصعبة، الأمر الذي يجعل من ذلك جريمة يحاسب عليها القانون، لاسيما استغلال الموقع الضعيف للنساء وخداعهن أو تهديدهن أو ابتزازهن، لاستقطابهن أو إبقائهن في دائرة بيع الخدمات الجنسية. لقد وظّفت المسرحية تقنية آليكي بلايت ” التوصيل المسجل” واعتمدت على مونتاجات لمقابلات من الحياة اليومية، وجاء عرضها على هامش ” إعادة الإعمار ما بعد الحرب: سوريا والعراق واليمن وفلسطين”. إن مسألة الاتجار بالبشر ومنها تجارة الجسد مسألة قانونية وحقوقية وأخلاقية ودينية، إضافة إلى كونها مسألة إنسانية أساساً، ولا بدّ من حملة توعوية وتربوية بين النساء والرجال، لوضع حد لآثارها الضارة، ناهيك عن إنزال أقسى العقوبات بمرتكبيها.