23 ديسمبر، 2024 12:58 م

نص ” عراقيون ” للشاعرة “حمدة خميس” تباريح الغربة وسحرية الموت

نص ” عراقيون ” للشاعرة “حمدة خميس” تباريح الغربة وسحرية الموت

نص ” عراقيون” للشاعرة “حمدة خميس” أشعرنا بصورة عامة أننا المقصودون به، وكذلك أشعرني بصورة خاصة ولأول مرة منذ خروجي من وطني ” العراق.. بأنني لست وحيدا في سراي العسير وأن هناك من يبصر سرانا في ليلنا المفجع الطويل بحلكته الدامسة.. كما أن مدار سرانا لم يعد منطويا على مدارات بعيدة أو قريبة في الزمان.. بل يلج مدارات وجدانية وروحية عميقة يمثلها دم الشاعرة “حمدة خميس” ذاتها.

“عراقيون
يسيرون في الليل البهيم
وفي دمي..”
        إن ملفوظ ” عراقيون ” الذي اتخذته الشاعرة عتبة للنص أو الثريا كي يضيء المتن إنما يشير إلى أناس سكنوا بقعة معينة من الأرض تنتمي إلى قوميات مختلفة وأديان شتى ومذاهب متباينة.. هؤلاء الناس يتقاسمون الوطن والمنفى.. فالموجودون في الوطن محاصرون وتنهش أجسادهم مخالب الأمراض والفقر والجوع.. والموجودون خارجا تتعاورهم أنياب الغربة والموت ومخيمات اللاجئين.
      إن ملفوظ “عراقيون” يحيل إلى مجموعة من الناس أزرى بها الدهر وكاتب هذه السطور ينتمي لهذه المجموعة المفجوعة ابتداء من يوم الميلاد ولغاية يوم الموت، إذ إن العمر هو عمر الفجيعة.. ومداها العمودي والمكان إنما هو بقعة ملتهبة لم تتطهر حتى بالطوفان.. لقد غادرها إبراهيم النبي مطرودا وأرسل فيها دموزي إلى العالم الأسفل وشطر جسد تيامات إلى قسمين .. وعاد جلجامش إليها مخذولا بعد أن سرقت الأفعى منه عشبة الأبدية.. واغتيل (أنكيدو) بعد أن حكم عليه بالموت من قبل بانثيون الآلهة.. إنها أرض موبوءة لم يسلم منها نبي ولا قديس ولا إمام.
      يخبرنا التاريخ أيضا أن هذه الأرض ليست بوابة جغرافية للعالم أو سرة ً لمقدساتها فقط.. بل هي كوة للإطلالة على التاريخ وقطف المجد الأبدي في أرجائها، حيث مر على ثراها الاسكندر (ذو القرنين) وجنده، وداستها حوافر خيول (كورش الفارسي) وهولاكو التتري.. إنها في كل حين تنزع ثوبا وتلبس آخر بقدرية دموية باذخة، لقد كانت مدنها عواصم لحضارات بائدة ودول وطوائف لإمبراطوريات فانية،  كل من يريد إقرارا أو اعترافا به وبسيادته، عليه أن يمر بها، وبالتالي ليس مستغربا أن يمر بها الانجليز ومن قبلهم الأتراك والفرس، وفي الحاضر يتهالك الأمريكان كي ينالوا اعترافا بسيادتهم المطلقة على العالم من خلال احتلالها.

عراقيون
رأيت على صفحاتهم وشم اليتامى
وفي أرواحهم ثقل الجراح
وتنوء به الجبال ما اجتمعت
وتئن تحت وطأته السنون

     “اليتامى”؟!.. ملفوظ قدري وأزلي يملأ بيوت العراق. فالعراق أكثر بقعة في العالم منتجة لليتامى والمساكين وأبناء السبيل ويكاد عددهم يضارع عدد النخيل، هؤلاء اليتامى يفترشون السماء لعل طيف أب يعود، وأنى له أن يعود، إذ كيف يعود أسير أو قتيل أو مفقود أو مسجون أو مهاجر أو من يبحث عن وطن عند بوابات الأمم المتحدة،  كيف يعود من يعيش متخفيا في الغربة بلا أوراق أو ممن ينتظر سفينة لتعبر به البحر إلى وطن بديل لا يقطف في رحلته إلا الموت وتأكل جثته الأسماك ليموت دون هذا الوطن البديل.. في العراق من العجب العجاب أن ينام الأب في بيته، إن الآباء مسموح لهم أن يناموا في أي مكان ما عدا بيوتهم ،أما الأبناء فمسموح لهم أن يروا ما يشاؤون سوى آبائهم.. حرام أن ينام الطفل في حضن أبيه، لو صدق وحدث هذا فسترتعد السماء وينهار قانون نيوتن للجاذبية.. ويغير دجلة والفرات مجراهما وستدور الأرض عكس مدارها.
   إن الشاعرة “حمدة خميس” صادقة منتهى الصدق عندما ترى الأيتام كأنهم وشم على صفحات العراقيين، فالعراقي (سيزيف معاصر) يحمل صخرة الفجيعة على ظهره ويصعد بها إلى الأعلى لتسقط منه قبل بلوغ القمة مرة أخرى، إلى قعر الوادي، وتكاد تغبطه على هذه القدرة مخلوقات الله كافة، فالعراقي محسود لقدرته الفائقة على التحمل والمطاولة والموت.

” عراقيون
غرباء.. أين ما اتجهت خطاكم
تطوحكم تضاريس
ويرج مضجعكم حنين”

عراق المكابدة والحصار

      إن ملفوظ عراق وبالرغم من دلالاتها الأسطورية (الميثولوجية) لارتباطها بأوروك (الوركاء) وجلجامش البطل.. إلا أنها غدت اليوم صنوا للرحيل والمكابدة والغربة.. وكذلك صنوا للحصار والجريمة والإذلال.. فالعراقي في أية أرض يضع قدمه تتلبسه الوحشة والانكسار.. وتتنازعه  قوتان متعاكستان تشدانه باتجاهين مختلفين ليجد نفسه مفتتا ومتشظيا في دوامة مهلكة والأنكى من كل ذلك لا يحس به أحد، انه يترك قلبا ملبدا بالحنين وروحا تهيم  تحت ظلال النخيل والصفصافات عند ضفاف الفرات.. إن العراقي يحمل أحلام المكان في جوانحه وخيالاته، وإذ يرحل بعيدا ترن في  جسده بقايا من آجر أوروك وزقورات أور وأختام آشور، وينمو جسمه على الطين والدم ملطخا معابد بابل وبوابات بغداد وملويات سامراء ومنائر كربلاء ورمال النجف وصخور دهوك وخرير مياه هولير (أربيل) وكنائس البصرة القديمة ومقامات الأولياء في نينوى بخيالاته وتأوهاته وعزف أصابعه ورقص حروفه فهو كل ذلك ويزيد:

“عراقيون
كأنما عصفت بمسكنهم رياح
وهدت طيب موطنهم أعاصير
شتت بهم نأي وآواهم مدار
ليس تدركه أمانيهم
وليس لهم فيما يدور الفلك
إلا قبضة الرمل
وأصداء الأنين.

       رياح عاتيات تلك التي تزمجر في وادي الرافدين النبيل، فمنذ أن اكتشف أهله الكتابة وكتائب الجند تتهالك على بواباته ليغدو واديا للموت، إن المعلم الذي علم البشرية الكتابة يحاصر اليوم بكل بسالة من قبل تلاميذه ، ففي الوقت الذي يعدهم بالمزيد من المعرفة يرمونه بالتهكم والسخرية، وفيما يدعوهم لصيانة أنفسهم من الشر يرجمونه بالقنابل، فيا لعظمة هذا المعلم ويا لبؤس هؤلاء الطلاب غير (النجباء)… إن جريمة قتل المعلم الأول (الأب الروحي) هي جريمة قبيحة لابد أن مقترفيها سيندمون يوما ليرجعوا تائبين كي يقرعوا أنواتهم على ما اقترفت أيديهم..

“عراقيون
إن التمعت مراياهم على غبش
على وهج
وحط على أعتابهم عتم كثيف
وانبجست منابعهم دما
كأنما أقدارهم موت
كأنما أسفارهم
أزل دفين”.

       الغبش والظلمة والدم والدموع، هي تفاصيل حياة العراقي في بلده.. إلا أنه يفرح يوما ويحزن دهرا، ما إن يبصر خيوط النور من بعيد حتى تخب عربات الظلمة والموت في واديه، وبلاده أرض طاردة ومميتة لا تستقر فيها قدم ولا يقوم فيها أساس لدار أو وتد لخيمة، ومأساة الناس هناك هي أنهم مسافرون إلى الأبد، وتنطوي أجسادهم على ذرات مميتة من عناصر ذاك الوادي، وإذ تتحد هذه الذرات في الجسد العراقي حتى تطرده تلك الأرض إلى مدارات بعيدة عنها، ينأى الجسد فيها مهيض الجناح وتبقى الروح تحوم حول مكان ولادتها، إذن فأي قدر وأي مصير مريع يتربص بهؤلاء الناس، حيث تبقى الروح تحوم حول مكان ولادتها إذن فأي قدر وأي مصير مريع يتربص بهؤلاء الناس المفجوعين.

” عراقيون
كم أجرت سيوف نصلها دمكم
وكم غدر ألقى عليكم حبائله
واستوطنت جنانكم لؤم
هذا الفرات ذبول
كأنما نصب في قاعة التبر
و”دجلة الخير” أضحى
دجلة الشؤم
” عراقيون
احترت  كيف أفسر ما يجري
بما أدري
وأرهن الأسباب
بمن صار هو السبب
طلاسم تمحو ما قبلها حينا
وحينا يراوغنا في طيه
طلسم”

   بالرغم من كون الجريمة مستمرة والقتلة معروفين، إلا أن استمرارها بحسب الشاعرة طلسم من الطلاسم التي يصعب حلها أو حتى تخيلها، ثم ما أصعب أن تقبض على طلسم لتجده منطويا على مجموعة من الطلاسم، إنها متاهة تبدأ من حيث تنتهي، ومساحتها الزمان الإنساني بكافة تفاصيله،  ولا شك بأنها لن تنتهي قريبا، إن المأساة العراقية مأساة أزلية، وكأن البشرية كالأفعى لا تجدد ثوبها إلا في هذا المكان، ولن تجدد شبابها إلا هناك، وثمن كل هذا المخاض البشري هو دم العراق بأبنائه وحماماته وظلاله ومياهه.

“عراقيون
وهنا يجر خطاكم
كأنكم يأس
ويعجز هذا القلب
من حمل ما نأسى
قلبي عليكم
ودمعي كيف أسكنه
إذا الروح في صمتها حزن وفي نطقها حبر؟!.

      عندما يقرأ الكلمات أعلاه.. شخص معني بالفجيعة مثلي وما يرى فيها من حزن نبيل وعاصفة شفافة، لا بد أن تهزه تلك الكلمات المشبوبة بصدق الشاعر، وحرارة الدموع، ونقاوة الدماء، ولابد لي من القول بعيدا عن النقد وبكل حب: أيتها الأخت الشاعرة “حمدة خميس” شكرا لك .. فكلماتك أعلاه.. أشعرتني بأن الأرض لا تزال تتكلم العربية.. وأن الصحراء لا تزال نجية.. ولا يزال البحر رؤوما.