23 ديسمبر، 2024 10:11 ص

في البدء، نقرأ النص الاستثنائي، فكراً وجمالاً، وهو ” قصيدة-أغنية ” سومرية، كتبت قبل ما يقرب من خمسة آلاف عام، فهي من نصوص الألف الثالث قبل الميلاد:

“في الليلة الماضية، عندما كنت أنا الملكة أتألق.. في الليلة الماضية عندما كنت أنا ملكة السماء، أتألق.

عندما كنت أتألق وأرقص، كنت أترنم بأغنية تحت شعاع القمر الهابط من السماء.. التقى بي السيد، ووضع يده في.. اشمكال أنا، عانقني.

ما هذا يا ثور الوحش؟

دعني، عليَّ أن أعود يا كولي أنا، دعني، عليَّ أن أعود، أي عذر سأختلق لأمي؟ أي عذر سأختلق لأمي ننكال؟

دعيني أُعلمك أنانا.. يا أمكر النساء.. دعيني أعلمك، قولي لها.. أخذتني صديقتي معها إلى الحديقة العامة.. وألهتني الموسيقى والغناء، غناؤها العذب أمتعني، وفي غمرة البهجة، فاتني الوقت.

بهذه الذريعة واجهي أمك، بينما نحن نستمتع بحبنا، هنا تحت ضوء القمر، على فراش نظيف، وثير وناعم.

كنت أعددته لك، لأقضي معك وقتاً جميلاً، في هناء، مرح.

جئت إلى باب أمي وأنا أمشي بمرح.

جئت إلى باب أمي، ننكال، وأنا أمشي بمرح.

لأمي سيقول الكلمة، ويرش الأرض بزيت السرو.

زيت السرو، وهو الذي سيطيب البيت، هو الذي تحمل كلمته الفرح العميق.

سيدي يلائم حضني المقدس “أما اشمكال أنا” إبن سين الجميل، السيد ديموزي.

يلائم حضني المقدس، “أما اشمكال أنا” إبن سين الجميل.

لقد سبق لي أن توقفت عند هذا النص، في كتابي” قال لي عبدالله” غير أنني بقدر ما أعود إلى قراءته بين الحين والحين، أعود إلى المزيد من التأمل فيه أيضاً، فهو ليس مجرد نص شعري جميل او أغنية ساحرة، بل هو وثيقة تاريخية تؤكد خصوصيات الحياة اليومية في المدينة السومرية.

وحين أذهب إلى أن هذا النص أغنية، فذلك آت من قناعتي بأن بناءه الشعري، من تكرار وتقطيع وتقفية، جاء من كونه تغنيا فردياً أو جماعياً، مع أننا نعرف أن الشاعر السومري كان يغني قصيدته بمرافقة عازفي الآلات الموسيقية، وهذا النص مما كان يعرف بقصائد الحب السومرية، يتحدث عن الحب بين “آنانا” و” ديموزي” اللذين ستسميهما النصوص البابلية “عشتار” و”تموز”.

وهو -النص- “القصيدة-الأغنية” يكشف عن ثراء حضاري وتقدم اجتماعي، عرفته بلاد الرافدين، أيام كان العالم يعيش ظلموت الجهل والتخلف، فالعلاقة التي تربط بين آنانا وديموزي، علاقة حب بين رجل وامرأة حضاريين، فهي المتألقة التي تغني وترقص تحت ضوء القمر، وتلتقي بمن تحب وتناديه بأكثر من اسم، دلالاً وغنجاً، فهو ” كولي آنا” مرة، و”اشمكال أنا” مرة أخرى، و”ديموزي” ثالثة.

أما هو فيهيّئ لها فراشاً نظيفاً وثيراً وناعماً، وإذا تأخرت ساورها القلق، فماذا ستقول لأمها “ننكال” وكيف تبرر غيابها عن البيت؟ وهذا القلق يكشف لنا متانة البناء العائلي، وحين وجد لها حبيبها عذراً، نجد البعد الحضاري في العذر، صديقة تزار، وحديقة عامة ترتادها النساء، حيث الغناء والموسيقى من متع الحياة وأسباب البهجة.

أما أرض البيت فترش بزيت السرو، من أجل أن يعطر ويبدو أكثر بهاء، وإن علاقة الحب التي تتحدث عنها “القصيدة -الأغنية” السومرية، جاءت في سياق شعري فريد، مما يؤكد الواقع الحضاري الذي تحدثنا عنه، فهذا النص الاستثنائي يتوفر على مقومات الفن الشعري، التي لا شك في أنها نتيجة خبرات وتجارب ناضجة، وإن المفردات الحضارية التي جاءت فيه ما زالت مجتمعات إنسانية لم تعرفها حتى أيامنا هذه.
نقلا عن العرب