هذا ديوانٌ شعري للشاعر الأمريكي / براين ترنر / الذي امضي عاماً في العراق ابتداء من تشرين الثاني 2003، ورصد بعين واعيته ما صنعته الماكنة الحربية الأمريكية من دمار وقتل وهدم لمقومات الحياة . وما جابهته من مقاومة شرسة للغزو الهمجي الذي شنته على الشعب العراقي . أمّا المُحصّلة ُ فقتلَ مئات الألوف من العراقيين وعديد من التشوّهات الجسدية والسرطانات التي تفتك يومياً بالمئات منهم واغتيال علمائنا ونهب كنوزنا الآثارية والثقافية واحراق ما تبقى منها. كان الغزو الأمريكي همجيّاً وفقاً لكلّ المقاييس ، وتدميريّاً اعتمدَ الإبادة البشرية وقطع انفاس التقدّم بحيثُ اعاد العراقَ الى عصورحجريّة . نعم استهدف عن عمد البنى التحتية فمسح محطات الكهرباء والمياه والمصانع والمشافي والجامعات . فاذا كان اولو امرنا يغمضون أعينهم عن تبعات حرب الآبادة هذه باسم التحرير وارتقاء المناصب والقضاء على النظام البعثي فإنّ / براين ترنر / كان اميناً أكثر من مثقفينا ومُعلقينا السياسين الذين جاءوا من دهاليز الجهل والترهات الفكرية ليمنحوا هذا الغزو اللاانساني تبريرات ومسوغات شرعية خارج افق العقل والمعقول .
هذا الديوان المُنطوي على / ست وثلاثين قصيدة ً مغمّسة ً بالدم والفاجعة والنسيان / سجلُ ادانة دموية من جنديّ امريكي/ في بعض قصائده / حَيال سادة البيت الابيض الذين غزوا العراق من دون غطاء دولي وبناءً على اكاذيب مفبركة صنعتها مهارة ُوبراعة دهاقنة CIA وبمساعدة بعض ساستنا وحكام دولِ الجوار حين مكّنوا للجيوش الأمريكية مروراً آمناً ، وسهّلوا لها كلّ وسائل العدوان .
هذه لغة ٌ صُنعتْ من الدم / صنعت من الرمل والزمن / لكي تتحدّثها عليك أنْ تتعبَ في كسبها / عربية الجنود ص3 …../ هناك دبٌّ من شمال العراق / بُنيّ اللون / يُمزّقُ رجلاً في زاوية شارع / ويسحله الى أحد الأزقة / …../ أحدُ الرماة يُراقبُ أسداً يتعقبُ حصاناً / الزرافاتُ المأكولة حتى هياكلها العظمية / تُشبهُ مخلوقات ممّا قبل التأريخ / طيورُ البجع والحذف تفرّ مذعورة ً / من عصف مراواح ال ( بلاك هوك ) / ….حديقة ُ حيوانات بغداد ص4 / نعم كانت باصرتُة حادة تمرأت لها هذه الصورُ ، لكنْ لمَ أغمض ” براين “عينيه عن جثث الأبرياء الملقاة وسط الساحات وعلى الأرصفة وقد اغتيلوا غدراً وعدواناً ؟؟
لكنّه يفتحُ عينيه ليُخبرنا : / الخط السريع رقم 1 : ص6 / تبدأ الحكاية ُ بخط الموت السريع / بعدد لا يُحصى من الأشباح / تجوبُ الدروبَ ليلاً بحثاً عن الطريق الى الموت /… ولدنِ الأمريكان لا شيء أسهلُ من القتل :/ اللقالقُ تُعششُ فوق خطوط الكهرباء / … / أحدُ العرفاء على الخط السريع يُطلقُ النار فيُصيبُ واحداً / يذهلُ الطيرُ لحظة ً / كأنّه يعجبُ أن يأتيه الموتُ هنا / في الساعة السابعة من هذا الصباح الجميل / لقد خدعنا ” براين ” لماذا لم يقلْ : إنّ العريف قتل عدداً من الناس بشكل عشوائي همجي / ولديه أوامرُ قتل كلّ ما يتحرّك ضمن نطاق الرؤية / براين يرصدُ المأساة وحسبُ لكنّه يتغاضى عن وحشية صنّاع المآسي . فهل اراد أن يتشبث بالرمز بدلاً من التعيين أوالإشارة ؟
إنّه يتهرّبُ من قول الحقيقة ، من التصريح الذي يُدين ويتهمُ ، لذلك يدور ويلفّ متردداً وكاتماً صراحته وصدقيته / وفي : سوق الأسلحة / ص 9 / يقول : وفي الداخل يلفّ (أكبرُ) رشاشة كلاشنكوف بقطعة قماش / …./ ويتساءلُ ، وأظنّه يعرف الجواب مسبقاً :/ أهو تاجرٌ في السوق السوداء ، أم هو في المُقاومة ؟ / …. ثمّ يقطع شكنا : / ويأتي بنقود تزيدُ على ما يقبضه المرءُ في عام كامل / اذن ” اكبرُ” قاتلٌ أو مقاومٌ ولا فرق بينهما في نظر الأمريكي ، لهذا الغى انسانيته وادميته : / إنّه لن يسمحُ لنفسه بالتفكير بأصدقاء طفولته /…. / وهم يُقتلون ببنادق كان هو مَنْ زيّتَ مواسيرَها بيده / …لكنّه تناسى فرقَ الموت الأمريكية وهي تقتحم الدروب والبيوت وتمارسُ القتل والإبادة ، بل تقتلُ الناس وهم في سجى احلامهم ، واجفانُهم مخضلة بالأمنيات الصغيرة .
بيدَ أنّه لا يُنكر أن ثمة َ رجالاً لا يُغمضُ لهم جفن ولا بدّ ان ينالوا من المحتل الذي لا يُفرق بين الناس حين يقتل : ما على كلّ جنديّ أن يعرفه .. ص 11 / اذا سمعتَ الرصاصَ يُطلقُ عصرَ الخميس / فقد يكونُ ذلك عُرساً / وقد يكونُ الرصاصُ لك / لقد برر ” براين ” اقتحام الأعراس وقتل اناسيها خلل هذا الشكّ والظنّ . ولكي يؤكد تبريره يقولُ : / ثمة قنابل تحت الجسور / وفي أكوام الزبالة / وفي الطابوق / وفي السيارات / … ثُمّ يؤكّدُ تسويغ القتل / ثمة شعارٌ مكتوبٌ رشّاّ على الجسر / سأقتلك أيّها الأمريكي / فهل هذا يُبرّرٌ القتلَ العشوائي والإمعان فيه ؟ ولا يكتفي بهذا ، بل يسوقُ أدلة اخرى لابادة الأبرياء وشرعنة القتل : / ثمة رجالٌ يتقاضون ثمانين دولاراً لقاء مهاجمتك / وخمسة آلاف لقاء قتلك / في هذه الفقرة نفى ” براين ” صمود العراقيين بكلّ فصائلهم ، ووقوفهم ضدّ هيمنة المحتل الذي يتمشى بين ظهرانيهم وهو يقتل ويُبيد ويُخرّب ويستبيح كلّ شيْ : / ثمة أطفالٌ يلعبون معك / شيوخٌ يتحدّثون معك / نساءٌ يقدمنَ لك الشاي / وأيّ منهم قد يرقصُ غداً على جثتك / فهل نسي الشاعر الأمريكي أن كلّ شعوب الأرض تتصرّفُ مع المحتل وفقاً لهذه المعادلة منذ حرب فيتنام حتى افغانستان ثمّ العراق ، وفي كلّ مكان وطئته البساطيلُ الأمريكية .
بعدئذ ٍ يعترفُ ،على الرغم منه ، بمشروعية المقاومة / خزانة الوجع ص 13 : / لم يبقَ هنا سوى الوجع / وسوى الرصاصِ والألم / ……/ وسوى لعناتِ الجرحى / …… / صدّقْ ما تراه عيناك حين ترى صبيّاً في الثانية عشرة / يُدحرجُ رُمانة ً في غرفتك / أو حين يفتحُ قنّاصٌ ثقباً في جمجمتك / …. / افتحْ خزانة الوجع / …../ وتعلّمْ كيف يأتي الرجالُ الأشداء / ليصطادوا الأرواحَ / ….هذا اعترافٌ عن سبق اصرار على أن المقاومة ” العراقية ” من الفاو حتى كردستان العراق لهم نغمٌ واحد ٌ وسببٌ واحد ليُقاوموا المحتل لأنه جاء مثل اللص والطوفان لاستباحة شعب العراق وثرواته وليس كما ظنّوا أنّهم يُستقبلون بباقات الورد والهلاهل ، بل بلعلة الرصاص من قناص يعرفُ كيف يثقب جماجمهم .
وبرغم ارتداء كلّ قصائد الديوان طيلسان الدم والعنف الّا أنّ بعضها لم تفلت من رومانسية هادئة لا تتصل بدخان البنادق مثل قصيدة : موقع مراقبة ص 14 على سبيل المثال / ومن المنارة ينطلقُ صوتٌ / لكلّ حياة لحظتُها / عباّد الشمس يلتفتُ جهة َ الفجر /…..الخ .. ومثلُ هذه قليلة . فالذي يعيش في لظى النيران والموت يتناسى رومانسياته كونه مثقلاً بتبعات مسؤولياته العسكرية الصارمة التي تقضّ مضاجعه في كلّ آن .
أمّا قصيدة / هنا أيّتُها الرصاصة ص15/ التي خطفت عنوان الديوان ففيها عصب الوجع واليأس :/ اذا كان ما تريدينه جسداً / هاكِ أذن هذه العظام / وهذا العصب وهذا اللحم / هاك الاُمنية المُخبّأة تحت زنجيل الترقوة /
وبذات النبرة والإيقاع الفاجعين يُعمّقُ “براين ” تجسيدَ المأساة وتعريتها / قصيدة : أكياس الجثث ص16 /عصابة ٌ من الغربان تواصل التحديق بصمت / من اعالي أشجار اليوكالبتوس / ونحن نقفُ قرب جثث الجنود / وقد بدا كأنّهم سينقلبون / ويستيقظون من حلم ما / ليستجوبوننا عن الدم المُتيبّس على جلد رؤوسهم / وعن الرصاص الدفين في اقفية جماجمهم / … / ولمَ كلّ هذا الذباب المُحوّم ؟ /
ثمّ لا ينسى الشاعرُ أعداد الضحايا من جنودهم / قصيدة الجراح : ص 17 / والممرضة تبللُ شفتيها بمنشفة رطبة / وراحة ُ يدها على جبين ” ثاليا” / ……/ واللحمُ المحترقُ يخلي السبيل للدم الساخن/ .. …./ ف( ثاليا فيلدز) ماتت ، شبعت موتاً / وهي أبعدُ ما تكون عن المسيسبي /
وتتتالى قصائدُه تحرثُ في المآسي التي جرّها عليهم وعلينا هذا الاحتلالُ اللعين اللامعقول الخارج عن افق العدالة ومعطياتها . فيقولُ في / تشريح ص27 : / إنّ هذا الذي تمسكه ( كارزا) بيدها الآن / ان هذه الأربع والثلاثين سنة ً من الحياة / ستتحوّلُ الى رماد / ستُمنحُ للأرض والبحر / … هكذا تُهدرُ قيمة الانسان ، ايّ انسان منا ومنهم ، جزافاً ارضاءً لجنون مشعلي الحروب لغرض الهيمنة وسلب ثروات الشعوب .
وما يحيق بالعراقيين من موت مجاني عشوائي آلافاً آلافاً لابدّ أن يصيبهم أيضاً ولو بمقدار أقل . لكنّ موت جندي أمريكي ُيشعل غضب الأمريكان فيلوكه الرأي العام وأجهزة الآعلام . وموتُ آلاف العراقيين لا يخدشُ أيّ مسؤول عراقي ما دام موقعُه الوظيفي والسياسي بمنأى عن أيّما خطر .
ولا يفوتُ الشاعر ان يمرّ على ضحايا الحرب العراقية الإيرانية وما جرّتها على الدولتين الجارتين من ويلات مادية ومعنوية واحقاد لن تخبو / يوم العودة الى الوطن ” الشلامجة ” ص28 : / الهياكلُ العظمية تستريحُ في صناديقها / وما زالت بعد عشرين عاماً مرخية الفكين / اودّ لو استلقي بينها / ……./ اودّ لوتنحني موظفة الصليب الأحمرعليّ / لكي يُمكنني أن أرى النظرة التعبى في عينيها / وهي تُدوّنُ اسمي /
… ولأنّ مآساة الحرب لا تنتهي فيقول في: / الى النسور.. يوتوبيا مضادة ص 30 / دعِ ِالنسور ترتفعْ هي أيضاً / دعْها تشهدْ كلّ دفقة دخان / كلّ جندي يسقطُ / دعْها تشهدْ قبلات النساء الأخيرة لمَنْ أحببنَ / .. حتى أنا … دعِ النسورتتغذّ عليّ / دعْها تُمزقْني ارباً / …. اذن كلّ أحد يُمكن أن يسقط قي طوفان الحرب ، أنت وحظك ، ومهارتك ، وحذرك .
وعبر ست وثلاثين لوحة فجائعية ينقلك براين من محطة مأساة الى سواها . حيناً كان يُدين صنّاع الحرب ومحرّكي ماكنتها الدموية . وحيناً يرواح بين الحيادية والانضواء تحت جدلية الفهم الأمريكي . حيدرُ الكعبي حين ترجم هذا السفر الفاجعي أراد أن يوصلنا الى ما يقوله شاعرٌ امريكي عن حرب / شارك فيها / تفتقدُ القانون والعدالة ، لكنه لم يدِنْ صراحة طاحونة الحرب الّا ايماءً واشارة . والومضاتُ القليلة التي ترفض هذه الحرب حفّزت الكعبي على هذه الترجمة الماتعة بلغة سلسة أشبهَ بالغناء منه الى النثر المُقعّر . ولأنّ / حيدر / شاعر ومتقن اللغة الأنجليزية وعارف ببواطن اسرارها ودروب بلاغتها فقد حالفه التوفيق ، كونه اوقفنا عند شعر امريكي قائلُه من لحمة الاحتلال وسداه فكتب عن مشاهد الحرب وضراوتها ، فليس معقولاً أن يكون حياديأً ، لكنه كان صادقاً وجريئاً ليقول ما لا يستطيع السياسيون العراقيون قوله ..ولنستمع اليه : / إنك تحملُ لآليء الحرب في جسدك / إنّك تبتلعُ القنابل بأكملها /…../ أعطها إذن لأولادك اعطها لحبيبتك / احلام ادوية الملاريا 1، ص 32/ …./ الصواريخُ غالباً ما تسقطُ / في السماء الليلية لقحف الجمجمة / غالباً ما تحترقُ الممرات الطويلة لنخاع المخ / صواريخ الراجمات ، ص 33 / …. / ليس لديّ ما أقوله عن الحرب / أنا لم احفرْ القبور في تلعفر / لم امسك بالمرأة الباكية في الرمادي / …./ ليس لديّ ما آخذه معي سوى الأطلال / الليل بالأزرق ،ص 50 .. /
الى الرمل تذهبُ جماجمُ الحرب عاماً بعد عام / الى الرمل ، ص 54 / …../ هذه الصناديق لن يحكم غلقها بالأشرطة اللاصقة / لن تشحن الى حدائق البيت الأبيض / لن تُدفن تحت قطع الثيل الأخضر / ……./ لن يقف جنودُ المارينز حرّاساً عليها / …/لأننا بمنحنا تربتنا لهؤلاء نقول / : اذا كانت هذه هي الحرية / فعلينا أن نقتسمها / القافلة ،ص 52 .. …