لا بد للمرء أن يلاحظ بأن النوع البشري لم يزل يتشبث بحقيقة مهمة مفادها أن الإنسان إنما هو مخلوق بانٍ، بمعنى قادر على البناء والإعمار، والعناية بفنون السلام معهما. هذا التشبث بالإنسان الخلاق يأتي مخالفا ومعاكسا لما نشهده في عصرنا من تعابير التخريب والهدم والعناية المفرطة بفنون الحرب والتخريب. لقد تحول العالم اليوم إلى كينونة مضطربة، ليس فقط بسبب الإنسان كعنصر قام فعلا بأعمال تخريب مباشر (في حالات الحروب والأمراض والفساد والإساءة وسواها من انعكاسات حضارة آدمية لم تزل مشوبة بأنواع الاختلالات)، ولكن هذا لا ينفي أن الإنسان هو عنصر مستنير يرنو إلى التقدم وتيسير الحياة ممتطيا العلم وماكينة الصناعة ذات الآثار الضارة نحو مستقبل زاهر على المدى البعيد. ويعد ثنائي “العلم والتكنولوجيا” من أهم أسباب الإساءة إلى “الأرض الأم” التي غالبا ما انتفضت ضد الاستنفاد والتجاوز، كما حدث ذلك في موجات التسونامي وفي سواها من الكوارث الطبيعية الأخرى، زد على ذلك ما تضمره لنا ظاهرة الاحتباس الحراري من مصائب ومصاعب قد يستحيل الإلمام بأبعادها أو مواجهتها الآن وفي المستقبل.
يتجسد التشبث الإنساني بالبناء في فكرة جديدة طرحت مؤخرا لتحاكيها العديد من وسائل الإعلام، نقاشا وجدلا وتسميات ومزيدا من الأفكار الإثرائية. مفاد هذه الفكرة من أنه قد حان الوقت للإنسانية أن نختار سبع عجائب جديدة بديلا أو زيادة على “عجائب الدنيا السبع” القديمة. وبغض النظر عن الفكرة مجردة، وللمرء أن يلاحظ أن مجرد طرح الفكرة ينطوي على شيء من الأمل بالتمسك بالإنسانية وبطبيعتها البناءة الأصل، وليس بالإنسانية المضطربة التي تهدم وتقتل بعضها البعض وبطرق مباشرة وغير مباشرة. جوهر الفكرة هو الاحتفاء بالمنجز السلمي للإنسان، وليس بالمنجز أو “اللامنجز” المترجم إلى أحقاد وضغائن، وأدوات تخريب.
لذا يبقى الاستفهام الأكبر قائما: ما هي العجائب التي تستحق أن ترتقي بنفسها إلى مصاف العجائب القديمة في عالم اليوم المشحون بالغرائب والعجائب كي تحظى هذه العجائب الجديدة بالتتويج لمثل هذا اللقب الرفيع؟ عجائب هذا العصر والعصور الماضية كثيرة للغاية، خصوصا بعد بداية عصر العلم الذي نقل الإنسانية من الظلمات إلى الأنوار والنهضة، إذ اكتشف الإنسان مديات باب العقل بعد أن كان موصدا لدهور، وكأنه ينطق بكلمة سحرية: لتتفتح أمامه العجائب والعوالم والقارات والأسرار التي لم تكن أصلا غائبة عن أعينه بقدر ما أنها كانت كامنة في عقله على سبيل انتظار ونحو تطبيق أساليب التفكير العلمي والمنطقي المتفلسف، القادر على المقارنات والاستنتاج والتراكم العلمي.
هناك طائفة من البشرية لم تزل متمسكة بتقاليد العصور المظلمة ومتشبثة بطرائق تفكيرها. وقد تجسدت هذه الذهنية في التسميات التي أطلقها البعض لترشيح “عجائب دنيا” جديدة: إذ ذهب البعض إلى اجترار تسمية آثار مصر الفرعونية، بينما دعا البعض الآخر إلى تسمية مواقع معمارية أثرية سواها. وهكذا ينزلق العقل النقدي إلى حال من الحيرة: هل هذه هي العجائب الجديدة؟ إن المنجزات المعمارية المهولة، من نوع جنائن بابل المعلقة والأهرامات وسور الصين العظيم، إنما هي من العجائب القديمة. ومرد ظهورها أصلا هو أن تلك العصور لم تشهد منجزات إنسانية من أنماط وأنواع أخرى غير المنجزات المعمارية. بل حتى هذه المنجزات القديمة لم تكن من إبداع الإنسان الحر المنطلق نحو أجواء وآفاق الفكر العلمي المتقد بومضات العبقرية. أقيمت هذه الصروح القديمة على معاناة وآهات وأرواح مئات الآلاف من الكادحين والمضطهدين وأسرى الحروب. وهكذا قامت الأهرامات نحو عنان السماء على أكتاف الأسرى الذين كدحوا سنوات طويلة لإقامة مقابر للملوك! ثم أقيمت الجنائن المعلقة (التي لم يتبق منها سوى آثار مندرسة بالقرب من مدينة الحلة جنوب بغداد) على معاناة آلاف البنائين المجهولين تكتمل لتكون فضاءً فردوسيا تستمتع ملكة بابل، زوجة نبوخذ نصر، ببعض الوقت لتفادي الشعور بالاغتراب لبعدها عن أهلها الذين كانوا يقطنون مناطق جبلية غنّاء. حتى سور الصين العظيم قد بني، ليس لتمجيد الإنسان، ذلك البنّاء العظيم، وإنما كإجراء عسكري لحماية مملكة قديمة!
لذا لا يمكن اليوم أن نتشبث ببنايات وصروح معمارية (عجائب جديدة) بعد أن أبدع الإنسان الحر عجائب من أنواع وأنماط غير عمرانية أخرى. صحيح أن العمارة هي من أعظم إنجازات الإنسان، خصوصا عندما تتوافق ذهنية العقل المهندس المبتكر مع ذهنية وعبقرية أصابع سواعد والمنفذين والعمال والفنانين، إذ تجاوز العلم الحديث هذا النمط من العجائب لينطلق فيطلق إبداعات الإنسانية نحو آفاق لم تكن أذكى العقول البشرية لتحلم بها سابقا. ولذا لا يمكن للمرء أن يقارن برج إيفل أو ناطحات السحاب بمنجزات أخرى قد تكون أفكارا مجردة أو شذرات عبقرية أو ومضات إبداعية: فإذا ما أراد الإنسان الحديث عن تسمية عجائب سبعة جديدة، توجب عليه الارتجاع إلى إنجازات كثيرة لا تحصى بسبب عددها المهول، ولكنها تبقى إنجازات تمثل حجر الزاوية في بناء الحضارة: فهل يمكن أن ننسى اكتشاف الكهرباء وتسخيره؟ وهل يمكن أن نتجاوز ابتكار الطباعة التي أشاعت الاستنارة والمعرفة عبر أجيال البشرية؟ والقائمة هنا تكون طويلة وتطول، ابتداءً من طرائق التفكير العلمية المبتناة على الشك والتجريب، مرورا بالثورة الصناعية واختراع الماكينة العاملة بقوة البخار، وانتهاءً بالشبكات الرقمية ومنجزات النقل والاتصالات والبريد الإلكتروني والهاتف الجوال وتواصل الإنسان مع أخيه الإنسان، عبر المحيطات والقارات؟
كانت البشرية سابقا حبيسة فن العمارة المهول والضخم، حيث إن هذا الفن بالذات إنما كان يمثل “برلمانا” للفنون والعلوم القديمة، لأنه كان يجمع المهندسين والعلماء والبناة والفنانين التشكيليين، من بين سواهم من أهل الصنائع والحرف وبقية أصحاب الفنون معا في عمل معماري واحد. لهذا السبب ارتهنت العجائب السبع القديمة بتاريخ السلطة، وبتاريخ الأباطرة والقادة العسكريين، أي بتاريخ البلاط والمعسكر، الأمر الذي يفسر القدرة على الحشد والتعبئة اعتمادا على أسلوب العمل بالسخرة، حيث يكون الإنجاز النهائي عملاق الكتلة والحجم والشكل لأنه، في جوهره، عبارة عن تراكم لمواد البناء المأخوذة من الأرض، بمساعدة أهم الابتكارات المعمارية البابلية، أي القوس المعماري واقواس البناء.
أما الآن فإن أهم العجائب هي من اكتشاف أو اختراع عقول متحررة من العمل بالسخرة والقسر: هي إنجازات رجال ونساء عملوا في مختبرات ومشاغل ومستشفيات ومكتبات وصوامع ومساكن بلا خدمات منسية، ولكن الإنجاز الحق إنما يرد إلى الحرية وإلى الاستنارة وآليات التفكير غير الملجومة وغير الموجهة عن بعد.