مات ولا يملك من حطام الدنيا شيئاً
عصامي.. متواضع.. قليل الكلام.. طيب السيرة.. رزانة في التفكير.. ليونة غير مصطنعة في السلوك.. معتدل في خططه.. اعتمد على نفسه في بناء شخصيته.. حتى أصبح سياسيا بارعاً.. ساهم ببناء الدولة العراقية.. التزم بمبدأ “السياسة فن الممكن.. لا العاطفة”.. تسلم مناصب رفيعة عديدة.. ورئاسة الوزارة ثلاث مرات.. سياسته تعتمد: “التهدئة.. وجبر الخواطر في كل الظروف”.. نزيه حتى الثمالة.
يعزو هو نجاحه في الحياة.. إلى حياته العائلية السعيدة.. مؤكداً: إن نجاح المرء ليس مرده إلى حيازة الشهادات العالية.. أو الحسب والنسب.. أو المال والجاه فقط.. بل يعود الفضل الأكبر إلى الزوجة الصالحة العاقلة المدبرة.. أو الحريصة على شؤون بيتها.. وتربية أولادها.. وسعادة زوجها.. ومراعاة ظروفه في السراء والضراء.. انه علي جودت الأيوبي.
نبذة عن حياته
ولد علي جودت اسمه مركب “علي جودت” بن أيوب أغا في الموصل العام 1886.. لقبه بالأيوبي صديقه طه الهاشمي “رئيس أركان الجيش العراقي”.. أكمل الابتدائية في الموصل.. ودخل الإعدادية.. بعدها سافر إلى اسطنبول العام 1903.. ودخل المدرسة العسكرية باسطنبول.. وتخرج العام 1906.
نشاطه:
ـ عاد الأيوبي إلى بغداد العام 1906.. وعين مباشرة في الشعبة الأولى من دائرة أركان الجيش العثماني في بغداد.. ثم معلماً مدرسة صغار الضباط العام 1909.
ـ من مؤسسي فـرع جمعية العهـد العسكرية في الموصل أواخر العام 1913.. التي حددت الجمعية أهدافها ب: السعي لنيل الاستقلال الداخلي للولايات العربية.. على إن تكون متحدة مع حكومة اسطنبول العثمانية.
ـ كان الأيوبي ورفاقه في البصرة في طليعة الذين التحقوا بالثورة التي أعلنها الشريف حسين شريف مكة الثورة على العثمانيين في حزيران 1916.. فالتحق الأيوبي بالجيش العربي الشمالي.. الذي يقوده الأمير فيصل بن الحسين.. وشارك بقيادة معارك عديدة.. وعندما حرر هذا الجيش الشام من القوات العثمانية.. عين الأيوبي حاكماً عسكرياً لمنطقة حلب.. فمنطقة البقاع.. ثم نقل إلى مدير الأمن العام.. فمعتمداً في بيروت العام 1920.
نشاطه في العراق:
عند انتخاب الأمير فيصل ملكاً على العراق.. كان علي جودت الأيوبي إلى جانبه.. وعين متصرفاً للواء الحلة.. ثم في كربلاء.. والمنتفك.
ـ وزيراً الداخلية في وزارة جعفر العسكري.. في 22 تشرين الثاني العام 1923.
ـ انتخب نائباً عن الموصل العام 1924.
ـ متصرفاً للواء ديالى.. ثم لواء البصرة في العام 1928.
ـ وزيراً للمالية في وزارة نوري السعيد الأولى في 23 آذار العام 1930.
ـ عارض المعاهدة العراقية البريطانية لعام 1930.. التي وقعها نوري السعيد.. وقدم استقالته من الوزارة.. وانضم إلى المعارضة.. واصدر جريدة والإخاء الوطني في 2 آب العام 1930.
ـ رئيساً للديوان الملكي في 22 آذار العام 1933.
ـ وزيراً مفوضاً للعراق في لندن آب 1935.. ثم وزيراً مفوضاً في باريس شباط 1937 إلى آذار 1939.. ثم وزيراً مفوضاً في واشنطن 1942 ـ 1948.
ـ وزيراً للخارجية في نيسان العام 1939.. وفي العام 1948.
ـ رئاسته للوزارة:
ـ شكل وزارته الأولى في 27 آب العام 1934.. وبعد شهر أسس “حزب الوحدة الوطنية” لم يلقَ ذلك الحزب أي تجاوب شعبي.. بل أقتصر على عدد من النواب الحكوميين والوزراء دون الاستناد إلى أي قاعدة شعبية.. وما لبث أن اضمحل وزال حال مغادرة الوزارة الحكم.
خط أنابيب النفط:
كان أهم انجازات حكومة علي جودت الأيوبي الأولى افتتاح خط أنابيب النفط الممتد من كركوك إلى ساحل البحر المتوسط في حيفا يوم الرابع من كانون الثاني العام 1935.. كذلك الموافقة على القيام بمشروعي جدول الإسحاقي وجدول الحويجه.. وهما مشروعان مهمان لري العراق.. ووضع قانون خولت فيه دوائر البريد في الألوية (المحافظات) الأقضية قبول ودائع الناس في صناديق التوفير لقاء فائدة سنوية فقوبل هذا القانون بالاستحسان.
وزارته الثانية:
ـ شكل وزارته الثانية في 10 كانون الأول العام 1949.. لكنه لم يستمر طويلاً.. فقد شهدت حادثة واحدة كانت هي القاضية.. إذ حاول الأيوبي أن يقيم علاقات دبلوماسية مع مصر.. التي تسلم رئاسة وزارتها النحاس باشا.. فأوفد وزيرين إلى القاهرة وقعا اتفاقا مع المسؤولين المصريين بعدم التدخل في الشؤون السورية.. لا من قريب ولا من بعيد.. وهو الأمر الذي يتعارض مع توجهات السياسة الملكية في العراق.. التي كانت تحمل مشروعين كبيرين.. الأول: مشروع سوريا الكبرى.. والثاني: مشروع الهلال الخصيب.. فكان الاتفاق مع حكومة النحاس بمثابة قتل للمشروعين.. مما أثار سخط البلاط الملكي وكبار رجال السياسة.. وفي مقدمتهم نوري السعيد.. فقدم استقالته في الأول من شباط العام 1950.. أي بعد اقل من شهرين على تشكيل وزارته.
وزارته الثالثة:
شكل وزارته الثالثة والأخيرة في 20 حزيران العام 1957.
أهم أعمال وزارته الثالثة:
ـ وقف محطات التشويش على الإذاعات الصادرة من مصر وسورية.
ـ تقوية العلاقات مع الأردن ولبنان.. حيث أهدى العراق ست طائرات حربية إلى الحكومة اللبنانية.
ـ عودة المفصولين والمدرسين إلى العمل في مدارسهم.
ـ إجراء إحصاء للنفوس في العراق 1957.. وتبين عدد نفوس العراق قد بلغ ستة ملايين نسمة.
موقف يحسب له:
قام رئيس الوزراء علي جودت الأيوبي بزيارة إلى تركيا لإكمال مراسيم خطبة الملك فيصل الثاني.. وتقديم خاتم الخطوبة إلى الأميرة فاضلة.. وقد قرر مجلس الوزراء اعتبار يوم السادس من أيلول العام 1957 عطلة رسمية حيث يصادف هذا اليوم (التاسع من صفر).. وهو ذكرى عودة رأس الإمام الحسين (ع) من دمشق إلى كربلاء.. وهو يوم حزن عند مسلمي العراق.. فأعرب رئيس الوزراء علي جودت الأيوبي عن رغبته في إرجاء إعلان خطوبة الملك فيصل الثاني عشرة أيام.. حيث يحل شهر ربيع الأول.. وهو شهر الأفراح فتعلن الخطوبة بفرح وابتهاج.. فاعترض الوصي عبد الإله أن يقر هذه الرغبة.. لكن أمام إصرار علي جودت الأيوبي على تحديد الفترة ومرور أربعينية الإمام الحسين أذعن الوصي.. ووافق على التأجيل.
نهاية المطاف:
بعد ثورة 14 تموز 1958 ظل علي جودت الأيوبي بعيداً عن الأضواء.. حتى غادر العراق إلى لبنان.. وتوفي في بيروت في الرابع من آذار العام 1969 ودفن فيها.
نزاهته:
نزاهته لا توصف.. عمل لأكثر من 50 سنة.. وشغل عشرات المناصب الرفيعة.. “من كبار الضباط.. متصرف.. نائب.. وزير.. عين.. رئيس وزراء لثلاث مرات.. لم يستغل منصبه لخدمة مصالحه أبداً.
ـ لم يعين أحداً من أقربائه.
ـ لا يملك أي عقار.. ويسكن داراً بالإيجار.
ـ ليس له حساب مصرفي لا في العراق.. ولا خارج العراق.
ـ مات ولم يملك شيئاً من حطام الدنيا.
ـ حكاية العشرة دنانير:
ترأس علي جودت الأيوبي رئيس الوزراء.. وفد العراق لحضور مؤتمر في إسطنبول.. أواخر العام 1957.. وعندما انتهى المؤتمر.. لم يعد كما هو مقرّر في برنامجه الرسمي إلى بيروت ومن ثمّ إلى بغداد.. بل قرر الذهاب الى دمشق كي يلتقي بالرئيس السوري شكري القوتلي.. لهذا طلب من السفارة العراقية ببيروت تأجير سيارة لتقله الى دمشق.. ومن هناك عاد الى بغداد.
ـ بعد فترة قصيرة من عودته وصله إشعار من وزارة المالية بقطع عشرة دنانير من راتبه الشهري.. وهي بدل إيجار السيارة التي أقلته من بيروت الى دمشق.. وبالفعل دفع المبلغ بلا أي نقاش؟ والجدير بالذكر أن راتب رئيس الوزراء الكلي 200 دينارا فقط ؟
لحظتها لم يغضب الأيوبي.. أو يمتعض.. إنما سأل المحاسب برقة ولياقة: لماذا قطعت العشرة دنانير بدل إيجار السيارة التي أقلّتني من بيروت إلى دمشق؟.
وجاء ردّ المحاسب وافياً شافياً:
برنامجك المقرّر.. يا سيّدي.. لم يكن يتضمّن زيارتك إلى دمشق.. ولم تكن في مهمّة رسميّة.. لذلك يتعذّر عليّ تسديد مبلغ التاكسي.. آسف !!