البرد … ذاك الوشاح الأبيض الذي إطرافه تغطي أكتاف المدينة , يحملها كبساط الريح ويذهب بها الى اودية النسيان العميقة , ذلك الزائر الغامض الذي تشعر بوخزاته ولا تراه وتستلذ الوخزة أحيانا !
في غرفتي عندما أصابتني الحمى تلك الليلة وحلمت بك يا مدينتي تفاحة يانعة أعطتها حواء هدية لأدم… فجاة هجم عليها الدود الأسود واكلها عن بكرة أبيها ….عندها استيقظت من هول الحمى اعوي !
نيسان يحزم أمتعته ويرحل في ساعات الفجر الأولى تاركا بعضا من أنين ليلة برد عابرة للذكرى , يلتفت إلي وأسئلة بلا أجوبة تهب من جهة الشرق … لا أبه لرحيله فقد كان ضيفا ثقيلا كغيره , في الوقت الذي كنت انتظر منه أخبار سارة ولكن خاب ظني كالعادة !
فليرحل …
لماذا لا نصادف الناس الذين نعرفهم قبل أن نتعرف عليهم ؟ فجأة أعي بأني في حالة حمى وها انا أهذي و أتوجع حتى في أحلامي !
خلف جدار غرفتي المنفية هناك أجد حقولا من الحرية تبتسم للشمس عندها اجري نحوها وافتح ذراعاي وارفع راسي مستمتعا بلون السماء …
حقل من البرتقال المقدوح
حقل من القمح الممزوج بالورد البري
ونخلة تقف شامخة , يانعة , تلوذ بها كل الطيور
خلف جدار غرفتي المنفية هناك ابتسامات منسية , خفية لأطفال رحلوا باتجاه عكس عقارب الساعة !
ويتلاشى ذلك الحلم اللذيذ …
آه… أني أهذي و أتعرق من شدة الحمى … الملم أشلائي المتناثرة من حولي وانهض بحثا عن كأس ماء اروي بها شراييني اليابسة فأنا أهذي نعم ولكني على الأقل أعيش بفضل شريان أبدي , سري موصول بيني وبينك يا وطني
اين مني ذلك النفس الذي أضعته منذ ان اخترت المنفى على ان أحمل شعارات زائفة لا تخدم بزيفها حتى بعوضة ؟
لست وحدي فهناك عشرات العيون أضحت تدزف دما على ما يحدث من مأساة … هناك حيث ما أراهم …
أراهم يتلذذون على طاولات طعامنا , يفترشون صالات القمار ليلا بضحكاتهم ودخان لفائفهم يلتف كالأفاعي حول أعناقنا ليتصدقوا علينا نحن المخدوعين , يرقصون تحت هدير شلال المال في مدن رثة , حناجرهم صدئة تشحذ , تنشد باسمك ( موطني … موطني )
وأنت الغني الفقير يا موطني !
أين مني ذلك النفس الذي أضعته ؟
أنين هذه الليلة طال , متى تشرق الشمس عليك يا أحياء مدينتي وتحترق بنورك عمائم سود غطت سماءك لمدة ألف عام ؟
متى ؟
يزداد إيقاع الوجع مع اشتداد موسيقى المطر وفضوله العنيد على شباك غرفتي … وتزداد ضربات الحمى ضراوة ويزداد معها تعلقي بحبل الحياة , لا اهتم … فهمي ليست إلا نزلة برد عابرة
لا اهتم …لأن الكل نائم يحلم لوحده … وقديما قال احدهم دع الجماهير تحلم …متى يجمعنا حلم واحد على الأقل ؟
لا اهتم … فشعبي مخدر بالشعارات , ضائع في جبهات الحرب ومعضلة دخول الحمام هل يستعمل القدم اليمين ام اليسار ؟
وما أنا إلا جرح في جسد وطن منهك … ما زلت أنزف بصمت , علني أجد من يضمد جراحي ونبدأ معا .