23 ديسمبر، 2024 8:16 ص

تشير باصبعها الصغير  طفلة غيم  بيضاء تائهة ، تخاطبها بزقزقة حميمة عصافير قد مرت من فوق رأسي تفرش لها بساط الطريق نحو مخابئ الغيوم المنحسرة عن زرقة السماء الصافية لتترك انامل الطبيعة تبدع برسم لوحتها السرمدية بهدوء ، ويبتسم جسر الحضارات وهو يشير بيده نحو جسر النصر والزيتون ليشاركاني التيه في هذا الاثير الساحر في مملكتي الجنوبية ، تختلط نسمات الصباح المنعشة بعبق الزهور والبراعم المتفتحة وهي تكرع ضوء الشمس ، وتكتمل اللوحة وهو ينتصب امامي فجأة ، يحمل عنوانه المعروف ، لوحة ورقية صغيرة ملطخة بالوحل ، تغطي مساحتها فوضى من حروف متزاحمة بخط يدوي قبيح ، قراتها مجبرا بصوت خجول يمتزج بضحكات جلساء المقهى وسلمته ربع الدينار السعر الاجباري المثبت والمعروف به ، فهو لا يأخذ قطعة نقدية غيرها مطلقا ولن يتحرك من امامك دونها….! … وتبقى رجاحة العقل نعمة اسبغها الله ، وما ثقل به  من افراط في التفكير هي نقمة تقض مضجع صاحبها وتطرد الوسن بعيدا عن نواظره ، اشهد ان ما يحمله العقل بحجمه الصغير هذا تنوء  به الجبال ولا تسعه الارض لو اطلق له العنان…. و ان ذهب العقل يخف وزن فاقده حتى يختفي كليا ولا يرى منه الا كينونة محطمة كالتي امامي الآن….قررت مجبرا بضغط الموقف ان اهادن ثقل رجاحة العقل على راحة ذهابه…….

ويعتقد بعقله المنقوص انه يبيع بضاعة مطلوبة لقاء هذا الثمن البسيط ويتفاقم الظن عند غلائها اللامعقول والظن ميزان العقل ، ان يكشف عن ابطه ويضع يده تحتها فتخرج اصوات مزعجة تثير الضحك ثم يأخذ مسلكه نحو تكرار الفعل في مكان آخر بشعور مثقل بالزهو والانتصار كزهو من سجل هدفا في مباراة نهائية من كأس العالم او من حاز بجائزة الاوسكار او ربما زهو بتهوفن وهو يعزف سمفونيته الكورالية التاسعة او ليونارد دافينشي وهو يضع اللمسات الاخيرة لابتسامة المونوليزا ، ويبدو لي انه يقترب قليلا من شخصية فكتور هيجو ، احدب نوتردام الذي ضحى بجسده المشوه ثمنا لاستمرارية الجمال في المرأة التي احبها وصاحبنا احب فعلته تلك كذاك الحب ، لا فرق عند عقليته المسطحة فهو لا يدرك شيئا عن تلك الشخصيات ومنجزاتها اصلا…..هو مجنون هادئ ، جنونه يفضي عن مسحة حياتية محدثة بحداثة العصر  يكتنفها الغموض في عالم الجنون الحقيقي او المصطنع ولا يستطيع تفسيرها الا من جن وعاد الى التعقل مرة اخرى……!  يغوص فيها حتى اذنيه بغموض رهيب ، والعقول صناديق اسرار سوداء لا يكشف محتواها الا انحسار اصحابها من سوح الحياة ….ومع ذلك فهو نموذج انساني مثير للجدل اصبح معروفا في عموم مدن المحافظة وخارجها…!

وتستوي كفتي  ميزان العدالة عند مقارنته  بشخصيات من نظراء في سوح الكفاح الانساني اليومي وعالم الجنون في حيز مدينتنا على الاقل ….. اذا اخضعنا شخصيته للجدل والتمحيص والمقارنة… فهي تختلف كثيرا عن اقرانه في سوق العقل …..(قدوري) مثلا ، ذلك الشاب الهادئ الذي يذرع الشوارع بشكل متري من الصباح حتى المساء ولا يكلم احدا الا من يثيره بكلمة او نعت لا يعجبه فيغرقه بسيل من السباب والشتائم التي تفضي نهايتها نحو صاحب السلطة التي عجلت نهايته بسياط جلادي المخابرات….اوعن شخصية (شكر احمر ) عجوز انيق وقور يرتدي ملابس نظيفة ويتكلم بكلام موزون يظنه الغريب عن مدينتنا انه من وجهائها وحين  تذكر امامه عبارة ( شكر احمر) ينقلب هذا الوقار نحو ثورة جامحة يشتعل فيها اوار الشتائم ويعلو سناه حتى يصل تشابك الايدي……اوعن شخصية (عمو جوعان) المسكين الذي يمتاز بضخامة الجثة لدرجة انه لا يستطيع الحركة ، وهو غارق بشكل دائم في القمامة  ، هادئ الطبع وغير مؤذ ، لا يستطيع احد اثارته ، لا يطلق اي نوع من الشتائم او الكلام البذيء سوى عبارة (عمو جوعان) يقذفها بوجوه المارة ، لقاءها يكسب لقمة او رغيف خبز… فهو لا يشبع ابدا…!

حاولت جاهدا ان انفلت من قبضة التطفل على التناصف الانثوي وابعده كليا عن هذا الحيز المؤلم ولكن شخصية (حميدة ) الحائزة على نصف عقل بشري الحت بقسرية الفضول وفضولية التحدي ان تكون موضعا للمقارنة في ساحة الكفاح الانساني من منصات الارصفة والانثى تناصف الرجل فيما يكسب او يخسر وهذا قدر حتمي لا مفر منه ….فهي  تمتاز انها تجوب الشوارع فوق عقارب الساعة وتكلم نفسها بمناسبة او بدونها ، تستدين ولا تسجدي و لا تعيد الدين لصاحبه ، وتختلف عن اقرانها الذين زارتهم المنية في الهواء الطلق و قضوا من جوع او قيظ او برد او ظلم ، بل تفوقت على الجميع ان المنية ارسلت لها مغلفة بطلقة قناص امريكي ….

اختلاف صاحبنا عن تلك النماذج ، ذكور واناث ، يعطيه تمييزا وتفردا جدليا في سوح العقل ودرجات المسكنة و مواطنة الرصيف واكتساب التعاطف التفاعلي ويجعله مختلفا بعيون ابناء المدينة على الاقل ….. انحسر عن المشهد اليومي  بضعة ايام ، و حرك اختفائه اعمدة الانسانية في نفوسنا  وبدا التساؤل يأخذ حيزا ملموسا حتى قيل انه مريض ….ومن يسال عن مسكين وهو مسكين في زمن العدو الاعمى خلف رغيف الخبز …. الا قرين في المعاناة….؟… كل من ابناء المدينة غارق في بحيرة من اليأس والارهاصات وكلها تنتهي بنهايات مأساوية يختمها الظلم والعوز والضيم ……وكل يغني على ليلاه ورأسه قطعة من اسفنج ملأتها دبابيس المشاكل ومطارق العوز…. وهذا هو الباب الذي يجعلنا ندخل عالم هؤلاء المساكين….

واللاحقون كالسابقون في عالم الارصفة والشوارع ، في يوم شتائي شديد البرودة انتهى به الامر  في ساحه الفناء بردا وجوعا ، وحيدا في معركة الفقر ، خبر بسيط  بين اخبار كبيرة تخص الشأن الوطني المثقل بالهموم ، مر فينا وهو يعلن نهاية صرح من صروح الذل ، واخزة تذكرنا في كل وخزة بواقعنا المر ، لكن تلك النهاية السوداوية لا تقر انحسار الفقر والمعاناة والاذلال فينا ابدا….وهكذا انتهى مشهد (كاظم الحلو الحباب) و رقعته الصغيرة الوفية التي رافقته من الرصيف حتى القبر…..