نزع السلاح، نزع الوجود السياسي

نزع السلاح، نزع الوجود السياسي

تطرح مسألة وجود الميليشيات وسلاحها في المنطقة معضلة شبيهة بالمفارقة البيزنطية القديمة او كما يسمونها الجدل البزينطي: أيهما أولًا، الدجاجة أم البيضة؟ هل على إسرائيل أن تنسحب من لبنان وغزة كي تتخلى الميليشيات في هذين البلدين وفي العراق عن سلاحها، أم يجب أن تنزع هذه الميليشيات سلاحها كي تنسحب إسرائيل وتكف معها البلطجة الامريكية؟

الحقيقة أن مسألة نزع السلاح، أو حلّ الميليشيات بدقة أكبر، هي في جوهرها مسألة وجود سياسي لهذه القوى. سلاح حزب الله في لبنان، وحماس في غزة، والحشد الشعبي في العراق، ليس فقط أداة عسكرية، بل هو أساس لبقائها في المعادلة السياسية. ورغم أن مقاومة الاحتلال، بما فيها الكفاح المسلح، حق مشروع ومعترف به في المواثيق الدولية، فإن ما نراه اليوم يكشف أن فوهات بنادق هذه القوى موجهة نحو صدور الجماهير أكثر مما هي موجهة نحو اعدائها “الشيطان الأكبر”.

ثلاثة المشاهد التي أمامنا تكشف الكثير من الكوميديا السوداء؛ حزب الله يصرّ على الإبقاء على سلاحه بحجة الوجود الاسرائيلي، لكن الحقيقة الدامغة منذ دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في نوفمبر الماضي من جانب واحد – أي من طرف حزب الله نفسه – أن إسرائيل واصلت اغتيال كوادره وقادته، وضرب معاقله، وتفجير مخازن أسلحته، دون أي ردّ فعل ملموس منه. وبالتالي فإن التحجج بالإبقاء على السلاح حتى انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية لم يعد سوى مزحة سخيفة وضحك على الذقون، بعدما بات السلاح غير قابل للاستخدام ضد إسرائيل. فما الدافع إذًا للإصرار على الإبقاء عليه إن لم يكن لحماية وجوده السياسي في لبنان؟

أما حماس، فرغم إمكانية تفهّم موقفها في البداية، إلا أن جميع الوقائع بعد اثنين وعشرين شهرًا من الحملة الدموية الإسرائيلية على غزة أثبتت أن سلاحها تحوّل إلى وبال عليها وعلى سكان القطاع. فقد جُرّب هذا السلاح مرة واحدة في 7 أكتوبر 2023، ولم يحقق سوى إطلاق يد الدولة النازية الإسرائيلية لارتكاب مجازر إبادة بحق الشعب الفلسطيني. صحيح أن هذه المواجهة كشفت الوجه الحقيقي للدولة الصهيونية العنصرية، لكن في المقابل خسرت حماس جميع أوراقها السياسية، ولم يعد بيدها اليوم سوى ورقة الرهائن، وهي تساوم بسلاحها ووجودها السياسي عليهم، بينما يبقى سكان غزة خارج حساباتها. لقد تحوّل السلاح الذي رُفع يومًا لحماية الشعب الفلسطيني ونيل استقلاله إلى سلاح موجّه نحو صدور أهالي غزة، لضمان بقاء حماس في المشهد السياسي، حتى ولو كان الثمن إبادة السكان.

في العراق، يبدو المشهد أكثر سخرية. سلاح “المقاومة” كان خلال الحرب الإيرانية – الإسرائيلية أكثر خجولا وخمولًا من أي وقت مضى، وأقصى ما فعله هو قصف مركز رادار للجيش العراقي بحجة باهتة أنه يزوّد الطائرات الإسرائيلية بالإحداثيات. ومع ذلك، يصرّ قادة الفصائل على أن نزع سلاحهم “ضرب من الأوهام”. 

 

تعيش هذه الميليشيات تناقضًا صارخًا: استفراد إسرائيل بالمنطقة يعني تقليص النفوذ القومي الإيراني وتقليم اظافره، ما يضعف هذه القوى ويهمّش موقعها في المعادلة المحلية. وفي الوقت نفسه، ترفع هذه القوى شعار “المقاومة”، بينما كانت في حقيقتها مقاومةً للجماهير التوّاقة إلى الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، إذ مارست النهب والسرقة، وروّجت الأفكار الرجعية، وقمعت الحريات بلا هوادة. والنموذج العراقي أوضح مثال: قوانين رجعية تُسنّ، وخرافات القرون الوسطى تُعاد إلى الحياة، بينما تتحكم الميليشيات بمصير الناس وتكمم أصواتهم.

ان تصريحات المسؤولين في الجمهورية الإسلامية مثل المرشد الأعلى ووزير الخارجي عباس عراقجي برفضهم لنزع سلاح حزب الله، وقد استفزت الحكومة اللبنانية، بمحاذاته يسعون الى سن قانون للحشد الشعبي في العراق، هي في الحقيقة جزء من مساعي لصد تمدد المشروع الإسرائيلي-الأمريكي للشرق الأوسط على الصعيد الدعائي والإعلامي، واستخدام سلاح المليشيات قدر الإمكان كورقة مساومة في المفاوضات مع الولايات المتحدة الامريكية، بعدما ما اطمأنت من السياسة الحالية للإدارة الامريكية غير معنية بسقوط النظام الإسلامي خلال هذه المرحلة على الأقل. ولكن الوقائع تبين أن اليد الإيرانية ليست طولى على الصعيد العملي، كما كانت قبل الضربة العسكرية القاصمة التي وجهت لحزب الله وسقوط نظام الأسد والحرب الاثني عشر يوما مع إسرائيل. وتحاول عبثا أي الجمهورية الإسلامية من تسويق فكرة “المقاومة” بعد ان استفردت إسرائيل بنفوذها الواحدة تلو الأخرى. ولذلك كل تلك التصريحات تصب في خانة الدعم المعنوي ومحاولة لإنقاذ ما يمكن انقاذ حتى ولو كانت صورتها الشكلية وصورة حلفائها في المنطقة أكثر مما تكون تكتيك لإعادة تموضعها في المنطقة.

إن مشهد الميليشيات في لبنان وغزة والعراق يكشف مأزقًا تاريخيًا: فإما بقاء السلاح لحماية وجود سياسي فاسد مع افلاس سياسي، أو نزع السلاح بما يعنيه من نهاية هذا الوجود، وفي الحالتين، تبقى الجماهير بين فكي كماشة: كماشة المشروع الجهنمي للشرق الأوسط الجديد، وكماشة الميليشيات التي اختطفت حلمه بالحرية، بينما البديل الفعلي المطروح حتى الآن هو استمرار هيمنة السياسة الأمريكية والإسرائيلية النازية على المنطقة.