23 ديسمبر، 2024 1:21 م

نزعة التجديد والتجريب في السرد العراقي القصير.. للناقد جميل الشبيبي

نزعة التجديد والتجريب في السرد العراقي القصير.. للناقد جميل الشبيبي

خلال منتصف الستينات عرف الناقد (جميل الشبيبي) بنشره دراسات معنية بالقصة والرواية العراقية . خلال علاقته الوطيدة بالقاص والروائي إسماعيل فهد إسماعيل اطلع على مخطوطة رواية (كانت السماء زرقاء) وحاور إسماعيل حولها كثيراً واستجاب إسماعيل لبعض هذه الحوارات . بعد استقرار إسماعيل في الكويت ، صدرت (كانت السماء زرقاء) عام 1970، عن دار العودة- بيروت، وقدم لها الشاعر صلاح عبد الصبور. عام 1971 اصدر الروائي إسماعيل فهد إسماعيل عن ذات الدار روايته الثانية “المستنقعات الضوئية” وأهداها :”إلى..الإنسانيين اللذين عانيا موتي وشاركا في ميلادي ..جعفر موسى علي وجميل الشبيبي” وقد أعيد طبع “المستنقعات الضوئية”، حتى الآن، أكثر من أربع طبعات. لظروف خاصة-عامة انقطع الشبيبي عن النشر، ثم عاوده  مع بداية السبعينات، وقدم مقالات ودراسات نشرها في صحف الفكر الجديد وطريق الشعب ومجلات الثقافة الجديدة  وألف باء والأقلام. في الثمانينات والتسعينات كتب الناقد الشبيبي دراسات عن السرد العراقي ، ونشرها في الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة ” نزوى” العُمانية والملحق الثقافي لجريدة” الاتحاد ” الإماراتية، وغيرهما. بعد سقوط النظام ساهم “الشبيبي” في المشهد الثقافي العراقي – البصري بفعالية. صدر له عام 2007 و ضمن سلسة الموسوعة الثقافية(48 ) دار الشؤون الثقافية- وزارة الثقافة- بغداد (بناء مدينة الرؤيا في القصة العراقية القصيرة – محمد خضير إنموذجا)، وقد قمنا بتقديم قراءات للكتاب في بعض الصحف العراقية. مؤخراً صدر للناقد جميل الشبيبي (نزعة التجديد والتجريب في السرد العراقي القصير- بنية السارد نموذجاً)*. التجديد والتجريب يتولد في الفنون فكرة وممارسة علمية- عملية واعية أو إبداعية لاواعية في فترات التحولات الحضارية الكبرى التي تواجهها المجتمعات الإنسانية في كل مكان وزمان, و غالباً ما ترتبط محاولات التجريب في الفنون،بمختلف أجناسها وأنواعها، بمحاولة تغيير صورة العالم المتهرئة والموروثة تحت وطأة الاكتشافات العلمية- الثقافية وما يرافقها ، أو ينبثق عنها من مكونات معرفية وتطورات حضارية و فكرية- نهضوية.تذهب الموسوعات الفلسفية والنقدية إلى أن “التجريب مرتبط بالتحديث وهذا الربط يفصل بين الأصيل والجديد، والتجريب يتعامل مع مختلف التيارات الفكرية والسياسية والعقائدية، بغية الوصول إلى الوقائع ويستخلص منه معرفة “.في المدخل يؤكد(الشبيبي):”لقد ابتكر المثقفون والأدباء العراقيون وسائل وتقنيات متنوعة،خصوصاً في الأدب، مكنتهم من توجيه نقد وهجاء للنظم السياسية الجائرة التي مرت على العراق وهي سياسات اتصفت بالعنف وتصفية خصومها السياسيين بطرق لا إنسانية، مما دفعهم إلى ابتكار تقنيات وأساليب فنية تلاءم هذا الوضع فهي توجه احتجاجاً لاذعاً ، وبنفس الوقت تتفادى غضبه ونزعته نحو تصفيتهم، ومن أهم تلك التقنيات ما اسماه، الشبيبي بـ” الاستفادة من بلاغة التورية” في الإشارة إلى القريب بقصد التأثير على البعيد وهي من البلاغات العربية الشائعة في ظروف انعدام الحرية وسيطرة قوى سياسية قامعة و متعسفة. السرد في اللغة :” هو تقدمة شيء إلى شيء تأتي به متسقاً بعضه اثر بعض متتابعاً. و سرد الحديث ونحوه يسرده سرداً إذا تابعه،وفلان يسرد الحديث سرداً إذا كان جيد  وكذلك هو التتابع و إجادة السياق”. لذا فـ”السرد يعني الحديث أو الإقبال، كمنتج وعملية و هدف و فعل و بنية و عملية بنائية، لواحد أو أكثر من واقعة حقيقية  أو خيالية. و تعني اللحظة السردية الفعل الإخباري لسلسلة من الوقائع و المواقف وبالتبعية، السياق الزمني- المكاني بما في ذلك السارد و المسرود له لذلك الفعل وفن السرد طريقة متعلقة بالأسلوب و كيفية التعبير، عندما يراد تطبيق المفهوم على النصوص الأدبية، ويعنى السرد بالحكي المنتج للمحكي، و نقصد بالمحكي، النص السردي الذي لا يتكون فقط من الخطاب السردي الذي ينتجه السارد، بل أيضا من الكلام الذي يلفظه “المعنيون” و يستشهد به السارد” / خديجة صالح- المحكي والنص السردي/شبكة الأنترت العالمية/بتصرف”. ما يستخلص من البعد اللغوي-عربياً- للجذر (سرد) يقود إلى” مفهوم الجمع و النسق المحكم المتتابع، تبعاً لعلاقات التجاور المنظم، و يبدو فن السرد طريقة متعلقة بالأسلوب و كيفية التعبير، عندما يراد تطبيق المفهوم على النصوص الأدبية حصراً”(ن.م). والسرود حسب (رولان بارت) لا حصر لها. يحدد الناقد “الشبيبي ” الكيفية التي يرى فيها تاريخياً- فنياً “الشخصية العراقية الثقافية  المنتجة “من خلال تواصلها وديمومة حركتها، بعيداً عن الشكل الذي تبدو عليها الآن وكأنها ثقافة مقطعة الأوصال ولا ترتبط بروابط أصيلة ومستمرة، ويعيد ذلك للظروف السياسية  وتأثيرها على الثقافة العراقية ومعطياتها بأي شكلٍ كانت، ويعزو ذلك إلى التوجهات الأيدلوجية للأنظمة السياسية التي مارست التعتيم والتجاهل للانجازات الثقافية-الفكرية والأدبية التي لا تخدم أو تنسجم مع  توجهاتها السياسية. يتألف كتاب الناقد جميل الشبيبي من مدخل وثلاثة أقسام، ويقع في(114 ) صفحة من القطع الكبير. في القسم الأول يعيد نشر الفصل الذي نشره في كتابه عن قصص “الرؤيا في العراق”. كما يحتوي هذا القسم على  دراسة حول تعدد صوت السارد في قصة” جيف معطرة” للقاص عبد الملك نوري،ويدرس مجموعة”مَنْ قتل حكمة الشامي” للقاص جمعة اللامي  كنموذج  للميتا سرد في القصة العراقية القصيرة، و الميتا سرد ” أكثر تمثلاً لنزعة أو وظيفة الخروج على حدود السرد، والتخلي عن تقاليد الواقعية بإنشاء تعارض بين المُتخيّل والسرد، وخلق تضاد بين الوهم والواقع عن طريق بناء وهم قصصي- روائي، ثم الكشف عن هذا الوهم”- الناقد عباس عبد جاسم- ما وراء السرد- دار الشؤون الثقافية العامة- وزارة الثقافة – بغداد. الإبداع  فضاء مفتوح على أفق واسع، لا تحده مرحلة تاريخية أو تحولات في البنى التحتية أو الفوقية، وهو يتطلع دائما إلى إنتاج الجديد، ولا يلتفت إلى ماضي الكتابة، بل يندفع دائماً في طرق غير مألوفة، في حين يرتبط النقد بنظريات وفلسفات وأصول قارَّة أساسها ماضي العملية الإبداعية، وبذلك تكون عملية الشد إلى الوراء سمة من سمات النقد. يدرس الناقد الشبيبي في هذا القسم من كتابه قصة” خطط مسائية لحرب غير منتهية” للقاص لؤي حمزة عباس. و مجموعة القاص وارد بدر السالم” البار الأمريكي” من وجهة نظر “السارد التشكيلي”. أما القسم الثاني من الكتاب فبعنوان ” “السارد في بلاغة التورية ” وتضمن دراسة مستفيضة عن “المشهد القصصي العراقي في بداية التسعينات”، ودرس في هذا القسم كنموذج تطبيقي لما قدمه من وجهات نظر في بحثه : “إشكالية بنية السارد في مجموعة” تيمور الحزين” للقاص احمد خلف. و القسم الثالث يحتوي على “قراءات في السرد العراقي القصير”. وضم  قراءات لقصة “موعد النار” لفؤاد التكرلي، و عن ” لليالي حكايات” مجموعة القاص جاسم عاصي، و “مسلة حكايات دامية” عن مجموعة “جناحان من ذهب” للقاص احمد السعد ،  وكذلك دراسة حول مجموعة القاص علي السباعي “زليخات يوسف”، ودراسة حول مجموعة القاص فرات صالح “عربة تحرسها الأجنحة”. الناقد جميل الشبيبي في كتابه وعبر الدراسات التي قدمها نرى أنه ذهب إلى أن  التجريب والتجديد في السرد العراقي قد اقترن بالعلاقة مع الواقع العراقي المعيش هجاءً أو كابوساً أو بناءً مفارقاً ، من خلال لغة القص التي حفلت بالتقنيات المتعددة المتنوعة لإنشاء هياكل شكلية غير معروفة ومسبوقة في السرد العراقي القصير ، وتابع بتركيز عنصرٍ من عناصر القصة العراقية القصيرة، وبهذا المعنى، من خلال دراسات الشبيبي، يمكننا أن نؤشر على ميلاد سرد قصصي جديد مختلف ومتنوع في تقنياته ومنفتح سردياً على المنجزات العربية والعالمية لتعزيز الإنجاز العراقي الوطني وبالشكل الذي يعزز الهوية السردية، روائياً أو قصصياً بثيماتها المحلية، وهو ما يمكن أن نجد بعضه متحققاً أو في طريقه إلى التحقق ضمن ما  يقدمه القاص  العراقي  عبر عدد من التقنيات السردية كالمونتاج والبناء المشهدي، واستثمار عالم الفضاء الذي تبثه الفضائيات في رصد الواقع التسجيلي، يضاف إليها التنوع الثر في زمن السرد بالاتجاه إلى الماضي نزولاً أو صعوداً نحو الحاضر والمستقبل من دون الاستعانة بالمونولوج الداخلي وتيار الوعي. كل ذلك يعد مؤشرا على التحولات في بنية الواقع المعيش الذي يمر بفترة من التغيرات الفوضوية في الأشكال الفوقية للمجتمع متمثلاً ببنية الدولة ومؤسساتها، غير الراسخة حالياً. و الشبيبي أكد ،في كتابه، ما سماه بعض النقاد العراقيين، مصطلح “الجيل” وهو يعود بالأساس إلى حقبةٍ زمنية لا يتجاوز أمدها في الغالب (عشر سنوات)، وخلالها ، بات (القهر) يهيمن على معطيات النسيج السردي العراقي، بشكل مضمر من خلال الإقصاء والتعسف السلطوي , الذي يرتبط ، بالضرورة، بالقمع الاجتماعي.
*اتحاد أدباء وكتاب البصرة/ دمشق – الغلاف: الفنان جبار عبد الرضا الخفاجي.