23 ديسمبر، 2024 12:13 ص

نزاع القوم والغراب

نزاع القوم والغراب

قالوا قديما -ومازال قولهم نافذ الصلاحية- أن من لبس السواد سبى العباد، وفي تراثنا كثير من الأشعار يتغزل ناظمها بما يشير الى اللون الأسود، كالعباءة والشعر والعيون، ففيها يزهو اللون الأسود تأنقا وجمالا وسحرا، ويسبي العباد تألقا وبهرجا وافتتانا. مقابل هذا هناك من يتطير من هذا اللون، إذ يشكل لديه محط اكتئاب، ويمثل عنده دليل حزن وهم ونكد.
الغراب، طائر بلون الليل الحالك، ذكره الكتاب فيما يكتبون والشعراء فيما ينظمون، حتى غدا محل شؤم يتطير منه كثير من الناس، ومما يحضر ذاكرتي الشطر الأول من بيت قاله الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة قال فيه:
إذا كان الغراب دليل قوم…
ومن المفارقة اللطيفة أن الشعراء وجمهور العوام، راحوا ينظمون الشطر الثاني من البيت، كل وفق مايراه في مخيلته، وحسب تراكمات مامر به من ظروف رافقت حياته، وفي حقيقة الأمر كان الصواب والتصويب ملازما لهم جميعا، والسداد والتسديد كان أيضا سمتهم في الوصف والتشبيه والمقارنة. سأذكر مانظموه في الآتي من سطوري، لا لإضافة جديد، ولا لاستعراض ملكة شعرية وموهبة أدبية تحلوا بها، بل لأن مقصدهم فيما نظموه مازال يدور في سمائنا، إذ قال الأول:
إذا كان الغراب دليل قوم
سيهديهم الى دار الخراب
ولما كان مثلنا الدارج يقول: (إذا ردت تسولف خلي شاهدك حاضر) سأستشهد بشاهد ليس ببعيد عنا حضوره زمانا ومكانا، ذاك هو صدام حسين. إذ يتجسد البيت أعلاه في هذا الرجل، فهو غني عن التعريف بنهجه وخططه وسياساته المتبعة، والتي أفضت الى خراب البلد شيئا فشيئا، إذ لم يسلم من قمعه المثقف والطالب والعامل والفلاح وربة البيت وحتى الطفل. وكم دعت أم ربها، وهز أب (شبابيچ) آل البيت طالبا شفاعتهم عند الله للخلاص منه، والإبقاء على أولادهم في مأمن من شرره المتطاير، وشروره التي لاتبقي ولاتذر. وقال الثاني:
إذا كان الغراب دليل قوم
يمر بهم على جيف الكلاب
وهذا ماحصل فعلا على طول الطريق الذي سيّر فيه البعثيون العراقيين على جمر لاهب من الضيم والقهر، إذ مامن طريق شائك موحل وعر.. إلا أقحموهم فيه.
وقال الثالث:
إذا كان الغراب دليل قوم
فلا فلحوا ولا فلح الغراب
وهو عين ماحدث لرأس النظام السابق، وكذلك مرؤوسوه، فقد نأى الفلاح والصلاح عنهما طيلة حكمه وتسلطه على العراق. وكم حمدنا الله وشكرناه في التاسع من نيسان 2003 يوم تحقق الأمل ولبي الدعاء وزال شر النظام وسقط الصنم، إذ ولجت علينا الحرية في ذاك العام من كل فج عميق، في وقت لم يكن بمخيلة أحدنا انه سيكون بهذه السرعة والكيفية. وكما للأمر إيجابيات كانت له سلبيات رافقته بقصد مدروس من أشخاص ومنظمات، كانت لها أصول من ذاك النظام الذي خلنا أننا ودعناه عشية ذاك اليوم. وتغيرت الصورة حينها عن ماهية التحرير ولذة الاستمتاع بطعمه، لاسيما وقد شابته مع الاحتلال شوائب كثيرة، صفقت لها جهات مغرضة ودول غذتها بما يزيد الطين بلة، ويزيد النار إضراما واتقادا. وكانت الرؤوس المحشوة حقدا وغلا خير سلاح لها، تدسها بين الحين والآخر، وتحت ذريعة وأخرى، فكانت تحشد ما أمكنها من الأجساد المغسولة أدمغتها، لتنفيذ أجنداتها في تفجير كل مايمت بصلة الى كلمة العراق، فالشارع العراقي كان هدفها.. والمواطن العراقي كان مقصدها.. والمنشآت العراقية كانت غايتها، وبالتالي تصب كل هذه المعطيات في الهدف الأكبر وهو إلغاء دور العراق كبلد وشعب في المنطقة بل والعالم كذلك، وكأنها بهذا تكمل مابدأه نظام البعث منذ الثامن من شباط الغرابي عام 1963، امتدادا بتسنم صدام موقع الصدارة في توليه الحكم.
اليوم وقد مرت أربع عشرة سنة على “الانقشاع المفترض” لسحب البعث السود من سماء العراق، ومن المفترض أيضا ان غربان الشر تنقشع معها، إلا أن واقع الحال يعكس غير هذا، إذ حل بدل الغراب مئات بل آلاف الغربان -والططوات- وقد بات من المعيب علينا إلقاء اللوم على الغراب أولا والغراب ثانيا والغراب عاشرا، وأراني مجبرا على إكمال بيت لبيد بن ربيعة بما أراه جليا وواضحا في الساحة العراقية الحالية، ولعلي أصيب القول والاستشهاد بالذي ختم زملاءه الشعراء فيما ذهبوا فيه عن الغراب، فقال قولا حاسما قاطعا فيه نزاع القوم، حيث أنشد:
إذا كان الغراب دليل قوم
فعيب القوم لاعيب الغراب