لم يكن همّ أطراف الطبقة السياسية التي تحكم البلاد منذ 2003, يوماً, ملأ الفراغ السياسي الحاصل بعد اخراج العراق كقوة اقليمية سياسية وعسكرية واقتصادية من معادلة موازين القوى في المنطقة والذي إختل إثر الحرب والأحتلال, وانما كان تسابقها على إشغال المراكز في الدولة, بأعتبارها حصص من غنائم دون تفعيل دورها واشباعها بمسؤولياتها كمؤسسات قامت لخدمة المواطن.
واذا لم تكن القيادات الكردية معنية بإرساء أسس مقومات دولة رصينة بسبب مآربها القومية الخاصة, ودفعها المتواصل الى تعطيل كل توجه بهذا الأتجاه, فان القوى الأسلامية عملت على رهن البلاد وكل مقدراتها لأيران, ثم تفكيك وتوزيع مقوماتها السياسية والأقتصادية وحتى القيمية, بالقطعة, فيما بينها, فأضعفت العراق طوال ستة عشر عاماً وجعلته في ذيل قائمة الدول المتحضرة.
وكان من الطبيعي, ان يكون اختلال التوازن الأستراتيجي لصالح المنتصر والأقوى من دعاة الحرب من امريكان وايرانيين واسرائيليين ودول اقليمية اخرى, وحتى لصالح شراذم تافهة مثل داعش على حساب العراق واصبحنا كشعب الخاسر الأكبر, وسنصبح الضحية الأكبر ان لم نتجنب الخطر.
تهديدات ادارة ترامب الأخيرة للحكومة الأيرانية والدائرين بفلكها, جاء واضحاً وحازماً – بأنها سترد بضربات موجعة على اي تعدي على المصالح الأمريكية حتى لو كان من أصغر اتباع ايران في المنطقة, على حد قولها !
هذه التهديدات لها دلالات كبيرة لبلد مثل العراق بوضعه المهلهل الحالي حيث لا حكومة مكتملة وغير قابضة على مجرى الأمور في البلاد, وحيث الصراع السياسي محتدم دون إلتفات لمصالح المواطنين, وحيث فوضى السلاح المستشري, وخروج بقايا الدواعش من جحورها في بعض المناطق وتربّص آخرين لوحدة البلاد اضافة الى اقتصاد ينخره الفساد المافيوي وعلى اعلى المستويات.
ورغم كل نُذر الحرب, لم نسمع بأجراءات او خطط احترازية أمنية, او اقتصادية على الأقل, على صعيد تعزيز المخزون الغذائي او توفير الوقود, قامت بها الحكومة تحسباً من عواقب نشوبها, لكن يبدو انها متيقنة من عدم حدوث تماس عسكري سيؤثر على أمننا الوطني, وهو ما نتمناه طبعاً.
في ظل كل هذه المعطيات المثبطة لآمال كل مواطن, جاء اعلان مديرية أمن الحشد الشعبي بأغلاق 320 مقراً وهمياً, تنتحل صفة الحشد الشعبي في بغداد وحدها.
ورغم ما يبدو من تحول ايجابي بأتجاه حصر السلاح وتعزيز الأمن المجتمعي وتقويض مصادر الجريمة والأرهاب الفكري, إلا ان البيان جاء عمومياً, فهو لم يذكر عائدية هذه المقرات ولا مصادر تمويلها واية اجندات كانت تنفذ, ولماذا لم يلحظ وجودها أحداً من الأجهزة الرسمية, كل هذه الفترة, بهمراتها وأسلحتها الثقيلة وافرادها الذين يتنقلون في حارات بغداد بباجات الحشد, ولا الى اين آلت أسلحة أفرادها ؟
فوضى السلاح هذه هي بالضبط ما يعوّل عليه ترامب وجنرالاته ليستغلها كذريعة في ضرب ايران واتباعها من المسلحين في العراق… فقد يقوم فرد نزق معبأ عقائدياً من أفراد هذه المقرات الوهمية المُسرّحين بأستهداف موقع امريكي في العراق بقذيفة آر بي جي -7 مثلاً, لتقوم القيامة على رؤوس العراقيين الشابعين ضيماً, بضرب مواقع في البلاد تُأزم وضعه وتنشر الخوف والخراب وعدم الأستقرار في ربوعه.
وقد يلجأ الأمريكيون ذاتهم الى فبركة هجوم على قواتهم او مصالحهم, مستغلين هذه الفوضى وغياب سلطة الدولة وتنوع الميليشيات, للوصول الى مآرب اشعال الحرب.
وآخر دلائل غياب مؤسسة امنية رصينة قادرة على حماية المواطن وتقديم المعلومة الصادقة بشفافية المحترف, كان الأختلاف, بين أطراف متعددة, في التفسيرات لحادثة تفجير منطقة جميلة الأخير, وستغيب بالتالي المعالجة المناسبة لمثل هذه الحوادث الخطيرة.
اننا امام مأساة جديدة لايمكن تلافيها إلا بتبني سياسة ترتكز على مصالح شعبنا وسلامته أساساً, بتجنب الأنحياز الى طرف من طرفي النزاع ومحاولة الدفع نحو تهدئة الأوضاع. وفيما يخصنا, تطويق امكانيات استغلال اية ذرائع لحرب مدمرة, بإتخاذ اجراءات جدية عاجلة لحصر السلاح بيد الدولة وإبعاد بلادنا وشعبنا عن شرورها.
فهل من مجيب ؟!