18 ديسمبر، 2024 6:39 م

يختلفُ هذا الكتابُ الصغير عن كل الخمسين كتاباً التي أصدرها إيلي ويزيل من قبل، فهو خليطٌ من الذكريات، والتأملات العميقة، ينقلها لنا المؤلف في طريقه محمولاً على الحدباء إلى غرفة العمليات. لا بد من فتح القلب. هنا يحس لأول مرة بذلك المخلوق الصغير الذي أكمل مع حامله ثمانين سنة ويزيد، جميلٌ راعفٌ من الدم. إنه قلبي أنا. كنتُ أشكو من المعدة، آلام الرأس والفكين، أما القلب، فلم يخطر لي على بال. هنا يبدأ أول التساؤلات: هل نعيش بالصدفة، ومن أين يأتينا الموت؟ ما هي المباهج، الحب، العائلة، وكل تلك الأوراق التي كتبتُ البعض منها، وتركت الباقي ناقصاً لم يكتمل؟ كيف تأتي اللغة، من الأرض، أم من السماء؟ من أين يأتي الخوف، من هذا الجسد المسجى على الطاولة الباردة، أم من نظرات الزوجة والأولاد المنتظرين هناك، بلا حوار ولا مساءلة؟ من أين يأتي الماضي، من العافية أم من الإنتظار القاتل، ذلك الشيء البعيد الذي نرجوه بالشفاء؟ لا توقف، ولا مهلة. تأتي الأشياء ملتهبة، ولا تترك فرصة حتى للدموع. إنه الزلزال الأكبر، جحيمُ الروح.
ذهب كلُّ الأصدقاء، ولم يبق غير سيفٍ عتيق مغروز على حافة الأفق. لا يرى المؤلف أية مقصورة بنفسجية، أو شبابيك من الشذر، وكل ما يراه الآن هو ذلك البيت العتيق في ضواحي نيويورك. ياه.. البيت، نادرٌ ووحيدٌ بين كل البيوت، لا ينتظر أحداً البتة. إنها الحياة. مرة أخرى، ها هو مهدد بالخسارة. كيف يرضى الخالق بالفقدان، وإلامَ تذهب الناسُ الضحايا، إلى الجنة، أم النار؟ لماذا يدير الخالق وجهه الكريم عنا، كيف يهجرنا، ألا يلاحظ أننا نذبح؟! لا جواب. لستُ أدري! لا نعرف تماماً إرادة الأرباب، نحن الذين إبتعدنا عنهم منذ آلاف السنين، وها نحن نريد العودة كالخراف الضالة التي لا بد لها أن تُذبح. لكن الربَّ موجودٌ في السؤال كما هو موجودٌ في الفعل، أما الإستجابة فأمرٌ آخر مختلف. إنها شيءٌ وقتي. توجد ألف طريقة للخلاص، لكن لا واحدة منهن مرضية. إنها المحنة.
جاء وقت النقاهة بعد العملية الجراحية. هنا يسألُ الولد الصغيرُ جده: لو أحببتكَ أكثرَ فأكثر، فهل يخفُّ ألمك، يا جدي؟ هنا فقط يعرف المؤلف الجد أن الله دائم الإبتسام. يبتسمُ في أثناء ما يتأمل في العباد، وبغير هذا المنطق لا تتم الحياة. نحن أحرارٌ في إختيارنا بين غضب البالغين وإبتسامة الأطفال، بين القبح والكراهية، وبين الرغبة في دحرهما هناك، في بواطن الروح وتلافيف الجسد. من الممكن جداً أن نشعل ناراً نضيء بها العاطفة، لا الكارثة. ومن الممكن جداً أن ننال الحرية حتى في السجون، ومن الممكن جداً أن نجد مرساتنا وصخرة حبنا حتى في المنافي البعيدة. هذا ممكن، ذلك أننا في لحظة الوداع لا نشعر بغير الخلود. نحن خالدون. تلك هي الرايةُ الحمراء. نؤمن بالإنسان على الرغم من الإنسان. والكلمات صُنعت أصلاً للجروح. وما أكثر الجروح وأقساها، وما أكثر الكلمات وأقساها. الجسدُ فانٍ، أما فكرةُ الروح، فخالدة. المرضُ يضعفني، لكنه لا يقضي عليّ.
تلك هي المعجزة، فحكاية اليأس تصبح في النهاية حكاية هزيمته. لقد وجد المؤلف جمالاً فريداً في إبتسامة حفيده. وجد شيئاً غريباً، إنه الحب.
كتابٌ نادر من النوبلي المعروف، إيلي ويزيل.
Elie Wiesel, Open Heart. New York: Knopf, 2012