5 نوفمبر، 2024 9:50 ص
Search
Close this search box.

نخلة ٌ وعساكرُ

أطفالٌ يتدفقون خارجاً من مكمن ما : باب ، أو فتحة زقاق ضيقة . كان كلّ احد منهم يركلُ كرة ً ويدفعها أمامه . فجأة ً ضربتني أحداها ، ارتطمت بصدغي . آلمتني الضربةُ قليلاً ، وبأصابعي فرّكتُ مكانها . لكنٍ ، أيّهم استهدفني بهذه المهارة ، ولمَ ؟ أنا لم اؤذ ِ أحداً ، وربّتما كان مدفوعاً من أحدهم . وبعد البحث والتقصي عرفت أنها قُذفت من فوق احد السطوح . فقد خمّنْتُ أنها جاءت من هناك ؟ فبلعتُ غيظي ، وسوف اتابع بقية القصة . اخترق الأطفال مكاني ، ساروا على ميمنتي وميسرتي ، وجلهم يبسمون لي . عدتُ الى بيتنا الذي هو نفسه لايُغادرني في مجاهل احلامي ولا يتغيّرُ . الغرفتان : الكبيرة والصغيرة ، والباحة والدرج . هنا يتكدّسُ معظمُ ذكرياتي : شططاً ووداعة ، جائعاً ومقموعاً ولاهثاً ارسمُ واقرأ واحاور حصواتي الصغيرة ، وأجعل جرس النحاسَ يُكلمني ، واسمِعُ الآخرين ما يقول حدّ الإزعاج . حتى ينهض ابي من قيلولته فيُطاردني ويصفعني  ويقبض على الجرس ويرميه في البئر . هنا تترسّبُ آلافُ لقطات صوريّة . فمن أين لي ذاكرة ٌ خصبة فصيحة تريني إياها ؟ فجأةً وجدتُني ممدّداً على فراشي وحوالي افرشةُ تنطوي على آخرين يغطّون في منامهم . جلستُ افرّكُ عيني ، وغادرتُ القاعة ملتفاً بغطائي الصوفي . تركتُ البيت وتلقفتني فوهة ُالزقاق التي اندلق الأطفالُ منها . وثمة صخبٌ ترامي اليّ . افضى بي الزقاقُ الى ممرّ يمكنُ النزول منه الى ساحة اشبه بملعب كرة التنس . وعلى الميمنة والميسرة وقبالتي درجات مكتظة بالناس . يسمعون الى خطبة العيد يُلقيها شخص على الطرف الآخر من يساري . كانت عيونُهم تشزرني وتستغربني وأنا شبهُ عارٍ التفّ بغطاء صوفي وانتعل خفين باليين . هم في كامل اناقتهم ، حالقون ذقونهم ولحاههم . يرتدون اجمل الثياب . وأنا رثُّ الخلقة والهندام . اشمأزوا من وجودي . وغادرتهم ملتفاً بخطيئتي . عدتُ بعد وقت بكامل اناقتي . كنتَ الآن ذاك الذي يعرفونه . وما أن اطللتُ عليهم حتى ناداني الخطيبُ الأول : / هلمّ يا استاذ ، الكلمة ُ لك الآن  / وعلا التصفيقُ من كلّ ناحية . قلتُ مع نفسي : تُرى مَنْ اكون حتى اُدْعَى الى مخاطبة هذي الجموع ؟ … / نعم ، انا هنا ، اهنئكم بالمناسبة الجليلة ، واذكّركم بمَنْ غابوا ورحلوا من اصدقائنا المُبدعين ، الألى خلدّوا مدينتنا وطيبة أهلها ، ومنحونا أجمل الكتب ، نرى زماننا واناسنا وانفسنا فيها . نترحّمُ على ارواحهم . لا اريدُ ذكر اسمائهم . انتم تعرفونهم اكثر مني . ولن اطيل ، فعيالكم بالإنتظار للإحتفاء بيوم العيد . واسلموا / ارتفع التصفيق ، ربّما لقصر كلمتي ، فقد غشيهم الضجر لكثرة الخطباء وطول خطبهم . وتورّمت المنافذ بالناس عائدين الى بيوتهم وكنتُ احدهم رميتُ قامتي خارج الزحام .
في مكان آخر لا يبعدُ عن المكان الأول مهرجانٌ آخرُ ، وأرى صديقي / زين/ يرتدي احد قمصاني الجديدة .لونُه أحمرُ ينطوي على مربعات سوداء ، وظلّ القميصُ مفتوحاً وصدرُه العاري يبين ، وقف لصق سياج حديد يتحدّثُ مع بضع عجائز كن يثرثرنَ ويُطلن على فسحة دائرية تقام فيها فعالية لم أتبيّن فحواها ، ضجيجٌ وجلبة وحراك ، تُرى أكانوا يرقصون أم يُغنّون أم يتبارون ؟ لم اُشغلْ نفسي بالنظر الى ما كان يتمرأى لي . بل همستُ في أذن / زين / : لقد دخلوا واحتلوا السوق / فجرّني من ردني : هيّا قبل أن يلجوا القيصرية ، ولنُخفِ سجّادنا / توغلنا فيها من بوابتها الواسعة وتسللنا نحو دكانه . طلب من ابنه البكر أن يُغلق علينا بابَه ويمضي بعيداً حتى تهدأ الأمور . في نهاية الدكان بابٌ صغير يُضفي الى فسحة يتكوّمُ فيها السجادُ . وحرّك نتوءاً على احد الجدران فانسحبَ جدارٌ وبسرعة تضافرنا على إدخال عدد منها ذي اثمان باهضة . ثم اغلق الجدار ، واشعل المصباح . فتراءى لي غرفة ٌ كبيرة تنطوي على عدد كبير من السجاد النفيس . امسك بطرف قميصه وبادرني بالقول : لقد ارتديتُ قميصك من دون علمك فسامحني / هززتُ له رأسي : لا بأس في ذلك / في نهاية الغرفة زرٌّ ضغط عليه فانفتح الجدارُ على باحة بيتهم ، واوصد الفتحة . كانت زوجته في البيت ، استقبلتني بابتسامة زهرية . وبسرعة هيأت لنا الشاي . في هذه الأثناء كان محتلو المدينة اطبقوا عليها وتوغلوا في القيصرية وحطموا أبواب الدكاكين المغلقة ونهبوا ما فيها ، بينما دخلوا المفتوحة واخذوا ما راق لهم . لكنهم حطّموا باب دكان صديقي وسلبوا عدداً من السجاد وغادروه . لم يبق في قيصرية السجاد سوى القليل من النوع الرخيص واختفى ما غلت اثمانه . ظلوا اياماً يقتحمون علاوي الحبوب ومتاجر السكر والشاي والأقمشة . ويسطون على البيوت ويعتدون على اصحابها ، بل يغتصبون النسوة . وقاومهم الناسُ ، لكنهم دفعوا حياتهم ثمناً . وحين أمحلتِ المدينة ونفدَ الطعامُ والماء غادروها الى مدن اخرى . وانفرج الوضع ُ ، استعادتِ المدينة عافيتها بعد ان اشتدت المقاومة في المدائن الأخرى فهُزموا شرّ هزيمة . واعتقلَ كبارُ القادة وشنقوا امام الناس . عاد الأمان ، وفتحت المحال ابوابها .
وفي امسية من الأماسي اطلّ علينا / زين / يحمل كيساً ينطوي على قميصي الأحمر بعد ان غسله وكواه .
…………………
هنا في صالة أنيقة كنتُ انظرُ في كأس بلوريّة على رفّ ٍ وراءه نافذة ٌ ، وعلى جهة من الكأس نخلة ٌ سوداءُ السعف ، جذعُها ابيضُ، تتدلّى عذوقها الحمراء ، لم أرَ مثلها جمالاً ، هرعتُ ابحثُ عن ” كامرتي ” لاخلّدَ هذا المشهد ، وهي في حقيبتي داخل فتحة في احد الجدران . كانت مفتوحة بُعثرتْ محتوياتُها ، غرستُ اصابعي فيها، قلبتها فلم تحظ َ ببغيتي . فجأة ً وقفت على يساري عجوز ٌ ، رفعت بيدها الكاميرا : اتبحث عن هذه ؟ قالت بلامبالاة / وبقوة  سحبتها من يدها ، مهرولاً تجاه الكأس ، كان مكانُها فارغاً ، غشيني كمدٌ واحباطٌ ، ترى لمَ تختفي الأشياء الجميلة التي يحتفي بها اعجابُنا ؟ سؤالٌ سخيف رميتُه بعشوائية على نفسي . لكني لم اتخاذل . بدأت اترصّدُ جميع الموجودين في الصالة ، والتقيتُ عسكريّاً فظّاً يحملُ كأسين ، استوقفتُه لأسأله ، بيدَ أنّه صدّني بمرفقه وابعدني.ولم تكنْ تلكما الكأسان شبيهي التي رأيتُ . ومن سوء الحظ كانت كاميرتي عاطلة ومحطمة . رميتها في سطل قمامة ومضيت ، لكنّ ذاكرتي الوفيّة لم تزلّ تحتفظّ بقامة تلك النخلة الغرائبية على الكأس البلورية التي احتفى بها بصري .
تركتُ مكاني مُثخناً بالكمد ، كمد ٍ على الكأس ونخلتها الاسطوريّة .  ثمّ … رأيتني مُحاطاً برهط من العسكر . اكرهُ العسكرية . فقد أخذت آلافاً آلافاً من شبابنا واحبتنا في حرب مجنونة كان المنهزمُ فيها الطرفان ، والمنتصرُ كان الأمريكان . الذين اضرموا فتيل الحرب ولم يُطفئوها الا بعد احتضار البلدين المُحاربين . وكرهتُ الجيش الشعبي الذي ابتلع عطلنا الصيفية وأيامنا وفرحنا ومعارفنا ووضعنا في قمامة الجهل والبلاهة . أكره أيّ قيد معرفي او اخلاقي أو سلطوي .  تجنّبتُ الرهط العسكريّ ، ونأيتُ بنفسي عنهم على الرغم من رؤيتي الكأس التي شغفتُ بها بيد احدهم وقد اتخذها قدحاً لشرب الشاي . رميتُ قامتي بعيداً . وظلت ِ النخلة ُ العجائبية جرحاً في ذاكرتي الملمُ شظايا ألقها واخبئها في نفسي .
…………………….
تُرى ، ما الذي يجري هنا ؟ بضعُ شاحنات ركاب مغطاة ٌ بأغطية حمراء ، وركابٌ ينتظرون . وضجيج طائرات غير طبيعي في السماء . وهلعٌ يغشى الناس رائحين وآتين يتخبّطون في سيرهم ، وانظارهم ترنو الى السماء ، خوفاً وهلعاً . اهو انقلابٌ عسكريّ في وضح النهار ، ام صدام بين فئة وفئة تُستخدمُ فيه الطائرات والمدافع تلعلع فوهاتها وترمي غيوماً من الأدخنة ؟  وانا ، بكلّ برود ، توغلتُ في هذا الطوفان الناري ، الذي يبدو عن بعد أشبه َببانوراما واسعة من دون خشية . كنتُ كمَنْ يعبرُ تخوم حلم سديم . واجتزتُ فسحة واسعة كانت تبدو لعيني مثلَ ساحة معركة . لم اصَبْ بضرر . وحين ابتعدتُ التفتُ الى الوراء . كانت أعمدة ُ الدخان لم تزلْ تتصاعد .
تُرى ، متى يخمدُ اوارُ العنف ومتى ينتهي انتظار ركاب الحافلات المتوقفة ؟ اسئلة ٌ تنتفخُ مثل بالونات ملونة وتنفجرُ ولا أحدَ يجيبُ عنها .
واسغربتُ وضعي لمَ اقفزُ من مشهد الى مشهد . ولمَ تتلقفني فوهة ُ المصادفات ؟ سؤالٌ اطرحه على نفسي لينضمّ الى بقية الأسئلة التي ظلت من دون جوابات ……
لكنني في مكان آخر ، ساحة مربعة من الثيل الناعم ، تدور عليها ما يُشبه حفلاً راقصاً . رقصاً يُنشط الجسد من الرأس والرقبة الى الذراعين والبطن والخصر والساقين . رقصاً كأنّه رياضة . هل أقولُ لكم مَنْ كان في الحلبة ، ربّما لن يُصدّقني أحدٌ ، رأيتُ بعيني صباحَ الدلوعة وتذكرتها وهي تغني توتا توتا ، انا ستوتا في فيلم قديم لها، وحطة يابطة في بلبل افندي … وصباح فخري ، وبريجيد باردو وافا كاردنر وكيرك دوكلاس وغرغوري بيك ..و   و… آخرون من أثرياء الزمن . يرقصون ، او يتحرّكون فرادى أو كلّ اثنين معاً . فيتمرأى لناظريّ حركات الرؤوس ، دوران الأجساد ، ميلان الرقاب ، وانحناءات الظهور وصعود ونزول السيقان . على يسار الساحة بيوتٌ صغيرة متلاصقة ، لها نوافذ عريضة تفضحُ ما ، ومَنْ بداخلها . ورأيت كارتر وتاتشر داخل غرفتين متجاورتين يتهيئان للنزول الى الملعب الأنيق . فترامى اليّ السرير والمرآة وثلاثة ُ جدران ، وكان المشرفون على هذه الفعالية/ وفعاليات اخر تجري هنا وهناك / شراذمُ من الأفغان . اندلق كارتر وتاتشر من البابين وتصافحا وتعانقا ونزلا معاً الى المربع الأخضر وجعلا يرقصان رقصة ً ثنائية على انغام الموسيقى . ما حيّرني هم الأفغان الذين يمنعون في بلادهم الرقص والموسيقى والشعر والمسرح وكلّ مُعطيات التحضر ، ويشرفون هنا على فعاليات تخدم الإنسان . قلتُ في نفسي : جئتُ الى مكان غلط . حين انتهت الحفلة ُ الراقصة انقطع صوتُ الموسيقى وعاد الراقصون الى مآويهم / الشقق الصغيرة / ثمّ اغلقت النوافذ / وتحركتِ الشققُ المتجاورة وغادرت المنطقة كما لو كانت عربات قطار . ومضيتُ ، ارنو من ممشاي الى فعالية واخرى ، وكان الأخوة ُ الأفغان دمثين متحضّرين . وتمرأت لي فسحٌ اخرى : هنا يتبارى بضعة اشخاص في قطع انابيب بلاستك ، لا بالمناشير ، بل بسكاكين محزّزة . وهناك مصارعة بين عدد من المتبارين ، فما ان يصرع احدهما صاحبه ينتقل لمصارعة غيره . وتمضي اللعبة حتى ينتصر مصارع على الجميع وله الجائزة . وكان الأخوةُ الأفغان يدورون بينهم ويفرضون النظام . انتقلتُ من مكان الى آخر حتى رسوتُ على حفرة دائرية بعمق متر ينام فيها شخصان ، ثمّ تُرمى عليهما سلالُ من العنب: الأصفر والأسود , فتمتليء الحفرة ، بل تغدو جبلاً . وتنقطعُ الأنفاسُ وننتظر . بعد وقت ربّما يناهزُ الساعة يتحرّكُ سطح كومة العنب وتطلّ اصابع ، ويدٌ وذراع ُثم بقية الجسد ، فيُسرع اثنان الى اسعافه . ويخرجانه وهو يتنفّسُ بصعوبة . امّا الآخر فقد اهمل مصيره وغادرتُ المكان وسط ضجيج الموسيقى . وكلا الأفغاني والموسيقى على طرفي نقيض .
ويعنُّ مرأى آخر . نهر وسوق ٌ وبيوت وأناس . يزدحم الماءُ بالقوارب ، والسوق بالناس . والبيوت باصحابها . كنتُ ابحثُ عن بيت صديق لأخي الأكبر ولي به معرفة جيدة. لكنّ اخاه الأصغر كان معي في الثانوية . عباس دكتور في الكيمياء ، واستاذٌ جامعي مرموق ، لكنّه سلفي الفكر . كنتُ ساعتئذ ماركسيّاً ، ترى كيف يلتقي النقيضان . قلتُ مع نفسي : بالحوار والمحبة والصداقة . فوجدتُني داخل بيتهم / بيت يضمّ الأبوين والأولاد وزوجاتهم واولادهم ، وكذا الأحفاد /  بدءاً جرى بيننا نقاشٌ مثلُ مياه النبع . لم يكدرٍه خلافٌ . لكنّ لهجة َ عبّاس احتقنت وتشنّجت واستحالت صراخاً لاعراكاً . كدتُ اترك البيت ، الا أنّ الأب دخل علينا . ولاذ كلانا بالصمت . جاء الطعامُ واجتمع الجميعُ حول السفرة . ومعنا الأخوة والنساء وبعض الأطفال . وانتقلنا الى صالة اخرى . وأجاءت النسوةُ بأواني الشاي والفاكهة . جلستُ على قنفة طويلة وجلس الى جانبي الأخ الأصغر تحسين ، صديقي في الثانوية وفي المحلة . كان الأبُ اريحيّاً ، صبّ لنا الشاي في استكانات جميلة . وتبرّعت زوجةُ تحسين بتوزيعها علينا . لكن صديقي تمدّد الى جانبي ووضع رأسه على فخذي الأيمن وأغمض عينيه . اختفى الجميع ما عدانا أنا وتحسين وزوجته الجالسة الى يساري . وصار الحديثُ شخصيّاً تبادلناه ثلاثتُنا في اريحية وحميمية بعيداً عن التشنج الذي اشعله عباس المتزمت . حين غادرتهما ، كان الأب داخل قارب يجدف تجاه وسط النهر . سمعته : ابق حتى المساء وسنتناول السمك المشوي معاً . كنتُ تعباً ، صحتُ : شكراً لقد كانت وجبة الغذاء طيّبة . اختفى الزمنُ بكل آلائه وخلائقه . وآنَ لي ان ارتاح من عناء هذه الجولات التي قمتُ بها وارتني العجب والغريب والمفاجأة .   

أحدث المقالات

أحدث المقالات