18 ديسمبر، 2024 7:42 م

لا شيءَ أكثر بؤساً وكآبةً من مدينة تخلو من الأرصفة، فالأرصفة هويتها ومقياس تحضّر أبنائها. وكما أن الفضاء المفتوح والألوان والأضواء في المدن تريح العقل وتهدّئ الأعصاب، فإنّ الرصيف يستفزّ الحواس ويحثّ الأقدام على الحركة. مدينة تخلو من رصيف، تتخلّى طوعاً عن عشّاقها مثل نهر بلا كتفين يفرّطُ بخزينه من الماء. في المدن المتحضّرة يمنح الرصيفُ الناسَ فرصةً للتأمل والتقاط الأنفاس مثلما يمنحهم الأمن والطمأنينة.
ليس بمقدور مدننا منح الأمان لعابر في طرقاتها، لا لأن الموت المتجوّل في طرقاتها هو الأكثر حضوراً، بل لأنها تكاد تخلو من الأرصفة. ولو تعثّرنا، مصادفةً، برصيفٍ فسيكون ملغوماً بحفرة أو كتلة كونكريتية أو كومة قمامة أو حديد “بسطيّة”. أضحى عبور شارع مغامرة كبرى كالسير على حبل مشدود.
على شاكلة بائعي الأرصفة، استحوذ بائعو السيّارات على أرصفة الشوارع الرئيسة. أصحاب المطاعم لم يعودوا مهتمين بمساحة المحل قدر عنايتهم باتساع الرصيف أمامه. كلّ منزلٍ على أيّ شارع، مهماً كان صغيراً ومهملاً، يتمدّد على الرصيف ويدفع المارّة إلى الشارع. سائقو السيّارات في هربهم من الزحامات يستحوذون على الأرصفة. لم تعد ثمة مواعيد انتظار لعشاق أو أصدقاء، فما من رصيف يحمل مسرّة وعد أنجز أو فرحة لقاء تحقّق.
     
سُئلتْ دبلوماسية غربيّة عما لفت نظرها في عاصمة عربيّة جميلة نسبياً، فقالت “للسيّارات فيها حقوق أكثر من الناس”. ولكون الآلة أهمّ من الإنسان، غالباً ما ترى السائق منشغلاً بأناقة ونظافة سيّارته.. كثير من أرصفة العاصمة تحوّلت إلى مرائب عجلات أو حمامات تنشطُ لغسلها وتلميعها، فنحمّمها وننسى أن نستحم.. نتكاسلُ عن الذهاب إلى عيادة طبيب إن توعّكت صحتنا، ونحرص أشدّ الحرص على معالجة منظومة تبريد لا نستمتع بـ(بخيخه)!!
مدن تخلو شوارعُها من الأرصفة هي مدن فرّطت بذاكرة سكّانها وأهملتْ تاريخها واغتالت عشاقها.. الشوارع لا تصنعُ تاريخ مدينة كما يفعل رصيف يضجّ بمارّين يتركون فوقه ضحكات أطفالهم وأحلام عشاقهم وأماني وهموم وطن.. المدن التي تؤثث أرصفتها بثراء باذخ تحتفل بالإنسان قيمة عليا، وتحفظ له ذاكرته من الضياع وتمنحه الكرامة والأمان.. المدينة بلا رصيف امرأةٌ عاريّةٌ استباح عفّتها ونقاءها وأصالتها قبحٌ استوطن طرقاتها ومسخَ بقيّة جمالٍ في طريقه إلى الأفول.  
[email protected]