18 ديسمبر، 2024 8:05 م

نحو سِيَر أدبية لنبلاء المحدثين…

نحو سِيَر أدبية لنبلاء المحدثين…

صديقي الخالد السعيد…

عَرفْتُهُ في أروقة مبنى يضمّ جريدة وإذاعةً محليّة. كان وادعًا مثل حمامة، واثقًا كأسد…
كانت صَنْعَتُهُ النحو، والصرف، ومُغْرَمًا بالأدب لاسيما الشعر!
حينها كنتُ مذيعًا لنشرات الأخبار، ومعدًّا لها، ومدقّقًا لغويًا أيضًا.
ما أن تعارفنا حتى أصبحنا خليلين…
عندما نُشِرَتْ قصيدة لي في الصحيفة التي كان مسؤولًا عن تدقيق ما يرد فيها من نحو، ولغة ، وعَرُوض اعترض خالد (أبو جلال) على تركيب نحوي ورد في بعض أبياتها ، ولم يشفع لي عنده كلّ ما أتقنه من حِيَل اللغة، ومراوغات الكلام، وضرورات الشعر!
اقتضت ظروف الحياة أن أترك العمل الذي وهبني نعمة التعرّف عليه، لكنه بقي مقيمًا لم يبرح المكان حتى النهاية…

آخر مرة التقيته فيها كانت على مقربة من ضريح الإمام الحسين عليه السلام. تجاذبنا أطراف الحديث كما لو كانت مدة افتراقنا ليلة وضحاها وليس ما يزيد على عشر سنوات!

لم أشهد في حياتي مثل أخي خالد أبي جلال مخلصًا في عمله صادقًا في أدائه…
كما لم أعرف إلا قلةً من أمثاله مصارعًا باسلًا للمرض وعذاباته…
ابتسامته التي لا تفارق عيونه تشعر معها كأنّ الرجل مصابٌ بزكام لا سرطان!

مضى صديقي إلى جوار ربّ كريم في الثامن والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 2020.

لكن هذا اليوم الموافق للعشرين من شهر آذار يصادف يوم ميلاده!

أخي خالد أنعم بهذا اليوم بعيد ميلادٍ سعيدٍ مع الملائكة، والشهداء، وسائر المخلصين الأنقياء…

2-شيخي، وصديقي…

صباح السالم المعلّم العالم الذي لا ريب فيه، كان لي شرف صحبته تلميذاً حييًا وخلًا وفيًا. هو في حياته شعلة نور في ديجور…
كان أستاذي يملأ الرحب هيبًة، وخفةَ ظل يستمد حضورهما من معين شخصية نامية، ونمير موسوعية مترامية…
السالم بسيرته العملية يُلقي في روع تلاميذه ومريديه أبدًا كيف يتعلم المتعلم برويّة وأناة وكيف يعلّم المعلّم علمَه لوجه العلم…
وقد وقر في ذهني وقلبي من وحي استطراداته المحكمة في صالة الدرس أن من لا يعرف إلا اللغة لا يعرف اللغة ، ومن لا يعرف إلا الأدب لا يعرف الأدب ، ومن لا يعرف إلا التاريخ لا يعرف التاريخ ومن لا يعرف إلا الفقه لا يعرف الفقه وهكذا…
كما وقر في ذهني وقلبي أنّ السرّ وراء الحذق الذي كان سمة فارقةً في جيل الدكتور السالم وأساتذته الكبار يكمن في أنهم كانوا يغترفون من بحار اللغة والأدب بوعاء واحد…
عاد السالم من القاهرة حاملاً لأرفع وسام أكاديمي في النحو ، ممسكاً بِكناز المصريين لا ينأى بأثقالها وهو يستعجل الخُطا نحو بغداده العظيمة ، لكنه لم يشأ مزاحمة شيوخه فيها…فليس مثل السالم “كمبتغي الصيد في عرّيسة الأسد”!

السالمُ سالمٌ من آفات العشرة وعاهات الاجتماع تشهد له بذلك أفئدة من عرفهم حتى مَن اختلف معهم. وهو على قلة يساره كبيرُ النفس عزيزُها كريمُ الكفّ غزيرُها، وهو من قبلُ ومن بعدُ رابط الجأش شديد المراس يقدّم المعرفة على كل معروف سواها، فما تزال تروي قرابته أنه حين استلم جثة أخيه، وقد قضى في حرب الثمانينات بين إيران والعراق أبى إلا أن يُكمل محاضراته في الجامعة قبل أن يقف في مجلس العزاء!
مضى شيخي إلى ربه في 17 نيسان 2021.

3-إدوارد سعيد الفتى الذي لم تُنصفه فلسطين وأمريكا …
كان كثيراً ما ينطق اسمه الأول “إدوارد” بسرعة مشددًّا على اسم “سعيد”، وأحياناً كان يستعجل في ربط الاسمين معاً، فينطقهما بشكل لا يتّضح – معه – أيٌّ منهما!
احتاج إدوارد سعيد -كما كتب في مذكراته- إلى أن يسلخ أكثر من خمسين عاماً من عمره كي يعتاد على هذا الاسم (إدوارد) ، أو لكي يشعر بحرجٍ أقلّ حيال اسم إنكليزي بعيد الاحتمال عن أن يكون مقرونًا بـاسم “سعيد”، الاسم العربي الصميم…
عاش إدوارد سعيد عمرَه منافحًا عن عدالة قضيّة بلده الأم فلسطين، ومعجبًا بأمريكا التي تقدّم الكفاءة على أي اعتبار آخر، أمريكا التي فرشت له الطريق بالورد ليعتلي أعلى سدّة منبر أكاديمي في جامعة كولومبيا العريقة، لكنّه جوبه بازدراء من الأوساط السياسة الفلسطينية والامريكية، فهو من وجهة نظر ياسر عرفات مستشرق يعمل لحساب الغَرْب، وهو من وجهة نظر مواطنين أمريكيين ناكرُ جميلٍ يعمل لحساب العَرَب…
يقول صبحي حداد مترجم كتابه «تعقيبات على الاستشراق» :
” انتمى إدوارد سعيد إلى تلك القلّة من النقاد والمنظّرين والمفكّرين الذين يسهل تحديد قسماتهم الفكرية الكبرى، ومناهجهم وأنظمتهم المعرفية وانهماكاتهم، ولكن يصعب على الدوام حصرهم في مدرسة تفكير محددة، أو تصنيفهم وفق مذهب ببعينه”…
كان سعيد يسارياً، علمانياً، مع ذلك فقد كتب نقداً علمياً معمّقاً جريئاً ضد يسار أدبي يبتذل الموهبة، ويخضع الإبداع إلى سياسة يومية أو طارئة!
لإدوارد سعيد زهاء عشرين مؤلفاً منها تحفته الأدبية «الاستشراق»، هذا السفر المترجم إلى أكثر من ثلاثين ‏لغة في العالم…
عانى إدوارد من مرض عضال، ووافته المنية في مدينة نيويورك عام 2003م وأوصى بنقل رفاته إلى لبنان!
إبراهيم السامرائي الميساني البغدادي…
عضوٌ خالدٌ في مجامع لغويّة عربيّة وعالميّة لكنَّه لسبب غير معلن لم يحظ بعضوية مجمع بلاده !
جاء المولود إبراهيم بعد عامين من ولادة الدولة العراقية الحديثة (1923م),في إحدى حواضر السومريين ( العمارة)، بعدما يمَّم الوالد السامرائيّ شطرَ الجنوب طلباً للخير والبركة …
غادر إبراهيم السامرائي ميسان نهاية الثلاثينيات متّجهاً غرباً لإكمال دراسته الجامعية في بغداد بوابة الحظ التي قيَّضت للشاب الطموح أن يفوز ببعثة وزارة (المعارف) إلى جامعة السّوربون…
كانت اللغة الوعاء الأكبر الذي استمد منه السامرائي القدرةَ في البقاء على قيد القمة طوال أربعين عام عملٍ كاملٍ، فهو كما قيل في حقه “فارس ميدانها ومجلي غبارها, وحائز قدحها المعلى, تنقطع دون إدراك مداه الظهور, وتنبهر قبل الوصول إلى أعاليه الأنفاس”. وقد تجاوزت مؤلفات السامرائي أكثر من مئة كتاب، وأكثر من مئة وخمسين مقالاً…
السامرائي نحيفُ الجسد متوسطُ الطول سخيٌّ حسنُ المزاج حليمٌ إلاّ إذا استفزّ فهو حينئذ كالأسد الجريح ، وهو بعد ذلك وقبله أبيُّ النفس شديد الأنفة ما أن بلغه حديث المسؤولين في الجامعة الأردنية عن التقشف – وقد كان أحد هيأة التدريس فيها- حتى تقدَّم على الفور بطلب إعفائه من الوظيفة التي كانت مورد رزقه الوحيد…
عاش السامرائي حياته غير متحيز ٍ إلى طائفةٍ أو قبيلةٍ أو مدينة , زاهداً في المناصب وقد كان بوسعه الظفر بأعلاها مرتبةً ومنفعةً لو أنه سلك إليها غير مسالك العلماء الصالحين…
أحاله النظام السابق على التقاعد ولمَّا يبلغ بعدُ سن الستين، ووافته المنية ظهيرة الأربعاء الخامس والعشرين من شهر نيسان سنة 2001م، ودفن غريباً في عمّان بعيداً عن أعين العمارة وبغداد وسامراء …