ان الواقع الفكري العربي، كان وما زال يعاني من قطيعة وتجزيئية وانبهار بالآخر واستلاب معرفي، وهجرة للعقول، وتخلف في ادوار الجامعات، وانفصال المؤسسات السياسية عن حركة الفكر والمفكرين، وسوء استعمال الوسيلة المعرفية والاعلامية، وسوء استغلال للثروات والطاقات المادية والبشرية، وسوء توزيع لها، وسوء علاقة مع العلم والتقنية، وطغيان النزعة الاستهلاكية، وغياب حرية التعبير، الى جانب غياب المنهج التحليلي العلمي الشمولي الذي يأخذ بشبكة الاسباب والعوامل في تحليله لأية ظاهرة.
صحيح، ان المنهج الشمولي الذي يعتمد جدل ( الذات والموضوع) و (الواقعي والعقلاني) يقود الى موقف فلسفي (عقلاني نقدي) ومنظور علمي جدلي تاريخي فاعل يضع الفكر سلاحاً بيد الانسان ليكتشف ذاته ويعرف طبيعة مرحلته التاريخية، ودوره الاجتماعي والوطني فيها، ومكانته في هذا العالم الصاخب الذي لا يرحم الكسالى او المتسكعين على هوامش الحياة وموائد الاخرين، انه الخطاب العقلاني النقدي الشمولي الذي نتجاوز به مصاعب الخطاب الذي:
1. انشغل بالاسباب وتاه فلم يدرك اي منها سبباً للمحنة والانحطاط، والمعاناة، واي منها نتيجة (ديني، قومي،اقتصادي، سياسي…) فعجز عن ادراك الحلول الصحيحة للواقع المريض.
2. الخطاب الذي انشغل بالنتائج وبقي مبهوراً بها، فلم يقوَّ على اكتشاف اسبابها، فتاه وتاه معه اصحابه.
3. الخطاب الذي حاول تلمس طريقه للاسباب والنتائج، فوجد نفسه اضعف من مواجهتها، فبقى اسير مقولاته الفكرية العاجزة.
4. الخطاب الذي اغلق عينيه وصم اذنيه، فلم يرَّ اوسع من الحقائق شيئاً، وبقي اسير التقليد والمحاكاة ليس الا، فضاع وأضاع . فحينما تؤشر خارطة الفكر العربي الواقع الثقافي للخطاب العربي بمثل هذه الاحداثيات المؤذية، لا بد من حضور العقلانية العربية النقدية التي تعين الانسان على تلمس طريقه (الاسباب والنتائج) ويدرك (ساحة الصراع) وطبيعة العلاقة بين الـ نحن والآخر، على الصعيدين الوطني والقومي.
ومن اجل تحقيق هذا الهدف النبيل، نشط في النصف الثاني من القرن العشرين خطاب عقلاني نقدي جديد تمثل بكتابات العديد من المفكرين والفلاسفة الذين تحرروا من اسر النظريات المنغلقة والقطرية والقومية العنصرية، والعالمية.. وتجاوزوا الاتجاهات الليبرالية السائبة والعبثية والاارادية، والتجريبية الذاتية، والذرائعية والانهزامية.
ولعل المرء يتساءل عن ماهية خطاب النزعة العقلانية النقدية التي نريدها للفكر العربي اليوم وهو يواجه اخطر مؤامرة على وجوده وحقيقته ولا سيما بعد احتلال بغداد الذي اسقط جميع النظريات الزائفة وكشف زيف الدعاوى العالميةعن العقل والحرية والانسان وحقه الطبيعي في العيش الحر الكريم، وكشف هزال نظريات العالم الفكرية بكل مسمياتها ومناهجها مثلما كشف هزال الفكر العربي المعاصر المنفعل والمقلد والتابع… فالنزعة العقلانية النقدية هي:
1- التناول النقدي الهادئ للمشكلات المطروحة امام الفكر العربي وصولاً الى اجوبة تطمئن الحاجات الفكرية والمادية وتحقق ثقة الانسان بنفسه وبمجتمعه، وتكون عنوان الفهم العميق للحياة، ومعيار السلوك الحميد، غايتها الحق، ووسيلتها الصدق مع النفس ومع الاخرين، والاخلاص للحقيقة الموضوعية حتى وان كانت مرة كالعلقم.
2- الطرح غير المهادن الكاشف عن جوهر الانسان وسلوكياته الاجتماعية وقيمته الاخلاقية ضمن وحدة اجتماعية تمكنه من السيطرة على نزعاته الذاتية ونزواته الانانية، ويعبر عن بعده الاجتماعي والانساني (الوطني والقومي). فالفرد العاقل هو الذي يؤدي واجبه كإنسان، وواجبه كمواطن، واستوعب ظروف وطنه وشعبه.. انها وحدة متفاعلة تحقق العدالة (الذاتي والموضوعي) و (الواقعي والعقلاني) بما يعزز علاقة الفرد بالمجتمع الموحد.
3- الايمان بالعلم والتقنية وفوائدها، يعززه ايمان روحي بما يقود الى العقول بموضوعية الحقائق ونسبتها، وتعد الاجوبة وتنوعها بحسب ظروف المرحلة وملابساتها وطبيعتها التاريخية وحجم التراكم المعرفي والحضاري المتحقق للفلاسفة، وحرية البحث الفلسفي ومناخه.
4- المعرفة الحقة، هي نتاج العقل الحر القادر على ادراك الحقيقة الشمولية والجزئية، وذلك وحده يفسر لنا تفاوت الاجوبة وتنوعها بسبب تفاوت وتنوع ظروفها وملابساتهاوعواملها التاريخية وقيمها الاخلاقية.
5- العقلانية النقدية لا تقصد الانطلاق من (ذاتية المعرفة) بل من نسبية المعرفة، والاخيرة غير الأولى. فنسبية المعرفة عند العقلانيين العرب النقديين، تعترف بمعايير للصدق والاخلاق والجمال، يمكن الاحتكام اليها في تقويم أية نظرية او مرحلة- هي خلاصة تفاعل الازمنة الثلاثة وفعل الآخر المدني- وبهذا تجاوزت الاجوبة ( الاخلاقية والمنغلقة) التي حجرت المذاهب المادية والمثالية بنصوص جامدة.
6- السعي لتجديد الاجوبة وتطوير المعرفة وحل مشكلات الحياة واختناقاتها في ضوء التحديات الحقيقية التي يعيشها الانسان العربي، والتعبير عن ذلك الفهم بأقل عدد ممكن من الرموز المعرفية مستفيداً من الادوات المتيسرة لديه لكسر الاحتكار العلمي والاعلامي.
7- الحرص على استكمال الاطار العام الذي يغني لوحة المعرفة بكل ما يضيفه من تجديد وتطور وتغير.. لا تنفع معه المقولات الجامدة او التجريدية او الاطلاقية التي تتعدى حدود الزمان والمكان والا ما كان منها ضمن دائرة المنظور الذاتي- الايماني- المتعلق بالضمير.
8- لا يضايق العقلانية النقدية سعي الانسان الدائم من اجل ادراك اليقين المطلق- مع ايمانها بنسبة الحقيقة- لكنها تنظر اليه كحكم انساني ينتهي الى يقظة يعود الانسان بفضلها الى وعيه لكي يواصل بحثه عن موقف يشعره بالتوازن الداخلي مع ذاته ليكتمل التوازن الاجتماعي مع ناسه والتوازن الموضوعي مع الانسانية. انها الروح تجلب بما يلي:
أ- الروح العلمية العقلية التي تعتبر العقل مقياساً ومعياراً على اساسه يحكم على الشيء بانه صواب او خطأ.
ب- المعرفة العقلية المشروطة بالضرورة والصدق والتعليم (الشمول). وتقترن بالفعل وتصدر عن العقل. فالعقلانية المنشودة تقوم على الادراك المباشر الواضح المتميز للمشكلات المطروحة في دنيا الواقع الحيوي والفكري.
ج- للعقلانية منهج تاريخي تحليلي شمولي.
يمكننا القول: ان مرحلة ما بعد احتلال بغداد كانت سبباً مباشراً في حث المشتغلين في الحقل الفكري على فحص الواقع العربي والعالمي بمقاييس العقلانية النقدية الجديدة لقد اجتمعت في العقلانية النقدية الجديدة، مبادئ العلم، وثمار الحكمة والعقل، وروح الايمان، وصولاً الى المعادلة الواقعية الروحية والعلمية الاخلاقية والقومية الانسانية المعبرة عن نفسها بنظرة شمولية للكون والحياة والانسان. فقيمة الانسان العليا لا تتجلى بثروته او ماله او سلطته بل بعقله او عقلانيته في القول والسلوك، والمنهج السليم المتوازن، ذلك طريق الحق والحقيقة في زماننا الذي لا يرحم ممن لا يمتلك موقفاً وفلسفة ووجهة نظر، تجعل من المفكر مرآة عصره الصافية، والشاهد على احداث التاريخ، والمدافع عن حقوق مجتمعه وامته، لا سيما بعد احتلال العراق الذي اسقط الاقنعة وكشف ما بين الخنادق، واظهر الحقائق التي تتصل بحجم المؤامرة ضد هذه الامة الممنوعة من ممارسة حقها الطبيعي في الحياة الحرة الكريمة، ودفعت ثمن هذا الحق، دماء، وشهداء، وتضحيات، وجوع، ومعاناة… حتى كادت اراء المنصفين من ابناء هذه الامة ان تجمع على هذه الحقيقة، وهم يواجهون مؤامرة التخريب الفكري والثقافي بصلابة وجرأة.
تياران في الفكر العربي والثقافة تسودان الوطن العربي اليوم، بناء الحقيقة العربية المتمسك بالحق، وتيار المتخاذلين المستسلمين الداعين الى التفريط بكل شيء من اجل ضمان عمارة (الجيوب) و (البطون). انه تيار التخاذل وذيوله، وستكون الغلبة فيه للحقيقة العربية التي هي من صلب التاريخ ومنطقه. وفي ضوء ذلك لا بد ان يجري البحث والتحليل والاستنتاج والبناء الفكري للخطاب العربي الجديد.
[email protected]