تعج بلدان المنطقة في هذه المرحلة بالصراعات الدينية والطائفية، وهذا بدوره أدى إلى تفكيك وحدة هذه البلدان. والدارس للتاريخ تتضح له الآثار المدمرة التي حصدتها القارة الأوروبية نتيجة للصراعات الطائفية آنذاك.
وما أن اكتشف أبناء أوروبا الآثار الخطيرة لهذه الصراعات على بلدانهم وشعوبهم لجأوا إلى فكرة دولة المواطنة التي تقوم على أسس العدل والمساواة وضمان الحقوق، وكذلك ميزوا بين رابطة الوطن التي تقوم وفقها الدولة الجامعة وبين معتقداتهم الدينية والمذهبية.
أما نحن أبناء العراق فإن محاولاتنا لبناء الدولة أصيبت بانتكاستين:
الأولى: أن الأنظمة الشمولية وبخاصة العسكرية منها فصلت بين الدولة المدنية والمضمون الديمقراطي، وهذا بدوره أدى إلى الاستبداد وانتهاك مبادئ العدالة والمساواة.
الثانية: تبني العملية السياسية في عام 2003 فكرة المحاصصة والطائفية السياسية التي عملت على تغييب الهوية الوطنية والوحدة المجتمعية.
ومما فاقم الأزمة هو أن مصدر الثروة الرئيسي ريعي “النفط” الذي جعل الثروة بيد النخب الحاكمة وتم توزيعها وفق معيار الولاء وليس وفق الكفاءة والحاجة. ومن جانب آخر انتجت المحاصصة ما يسمى بالديمقراطية التوافقية، وهذا نقيض الديمقراطية البرلمانية التي تقوم على مفهوم الأكثرية والأقلية.
وفضلاً عن كل ما تقدم، فإن نجاح القوى الإرهابية “داعش” في السيطرة على نينوى وهي ثاني أكبر محافظة بعد العاصمة من حيث عدد السكان وسيطرتها على القسم الأعظم من الأنبار التي تعد أكبر محافظة عراقية مساحة، فضلاً عن احتلالها لمناطق مهمة في محافظات أخرى، فإن هذا أدى إلى إضعاف الدولة وخلق دولة موازية باسم “الدولة الإسلامية”. ولم تنحصر النتائج السلبية لهذه “الدويلة” بالخراب والخسائر البشرية، بل تعدتها إلى خلق وقائع جديدة على الأرض.
وفي ظل هذه الأوضاع برزت دعوات “الكونفدرالية” في كردستان العراق بديلاً للنظام الفيدرالي “الاتحادي”، ومن جانب آخر تزايدات الدعوات لإقامة أقاليم
على أسس طائفية، ومطالبة بعض المحافظات بإنشاء أقاليم تتجاوز مفهوم اللامركزية الإدارية. وفي الوقت نفسه أخذت تتزايد حدة الخلافات الحدودية بين بعض المحافظات فضلاً عن تصاعد خلافات أخرى بشأن المياه والكهرباء والنفط لدرجة أن البعض أخذ ينادي بجعل ثروة كل محافظة حكراً على سكانها وليس لجميع أبناء الشعب العراقي كما نص الدستور على ذلك.
إن بناء الدولة الوطنية الديمقراطية ونبذ المحاصصة والطائفية السياسية يتطلب ما يلي:
أولاً: تمكين السلطة القضائية من ممارسة دورها من دون أي تدخل من السلطة التنفيذية، ذلك أن سيادة القانون هي التي تمنح المواطن الأمان وتعزز قيم العدالة بين أفراد المجتمع وتعلي من شأن الهوية الوطنية، فعندما تضعف سلطة القانون يلتجئ الناس إلى هوياتهم الفرعية: كالعشائرية والطائفية والإثنية، كذلك فإن استقلالية القضاء سوف تتعزز عندما يتم اختيار أعضاء الجسم القضائي على أسس الكفاءة والنزاهة والولاء للعراق، وهذا يقتضي أيضاً حظر الانتماء الحزبي على القضاة.
ثانياً: إعادة النظر في بناء القوات المسلحة باعتماد معايير الكفاءة والنزاهة والولاء للعراق، وهذا يتطلب إلغاء القسيمة التي تحدد الطائفة لأفراد القوات المسلحة، ونبذ السياسات التي تنتهك القواعد الوطنية العامة في دخول الكليات والمعاهد والمدارس المعنية بالقوات المسلحة (جيش ـ شرطة ـ أجهزة أمنية ـ قوات ساندة)، وكذلك تحريم العمل الحزبي في القوات المسلحة لأنه يخالف المادة التاسعة من الدستور التي تؤكد على عدم التدخل في الشؤون السياسية ولا دور لها في تداول السلطة. كما أن العودة إلى نظام الخدمة الالزامية يقضي هو الآخر على النزعات الطائفية داخل القوات المسلحة..
إن الالتزام بهذه القواعد مع الاهتمام بالتدريب والتسليح وإشاعة الثقافة الوطنية سيمكن قواتنا المسلحة من دحر الإرهاب وتحرير المناطق المحتلة والدفاع عن حياض الوطن.
ثالثاً: جرت محاولات منذ تأسيس الدولة العراقية لوضع قواعد للوظيفة العامة باعتبارها ركناً أساسياً في بناء الدولة، وقد وضعت مجموعة ضوابط للوظيفة العامة أهمها: الحاجة الحقيقية ـ الكفاءة المهنية ـ المنافسة العلمية.
وبعد سقوط النظام الدكتاتوري وإقرار الدستور الجديد تمت الإشارة في المادة (107) إلى تأسيس مجلس الخدمة العامة الاتحادي بصفته الجهة المسؤولة
عن اختيار أعضاء الجهاز الوظيفي، ولكن الاختيار ـ مع شديد الأسف ـ تم وفق المحاصصة والطائفية السياسية وتحولت الوظيفة إلى غنيمة تتقاسمها القوى المهيمنة على السلطة، ونتيجة لذلك تدنت الكفاءة وعم الفساد المالي والإداري وتضخمت أعداد العاملين في الدولة وتبعاً لذلك تضخمت النفقات التشغيلية على حساب المناهج الاستثمارية.
إن هذه الحالة تستلزم تفعيل مجلس الخدمة الاتحادي واختيار قياداته على وفق قواعد الوطنية العراقية والكفاءة المهنية والنزاهة بعيداً عن المحاصصة والطائفية السياسية وأن يتحلى أعضاؤه بالاستقلالية التامة.
إن الأزمة التي تعانيها البلاد هي أزمة بنيوية وليست أزمة حكم، وعلى هذا الأساس فإن العلاج لا يكمن في تغيير الحكومة بل يتطلب إعادة النظر في العملية السياسية القائمة على المحاصصة والطائفية السياسية وبناء مؤسسات الدولة على وفق قواعد وطنية تمكنها من السهر على وحدة البلاد وإشاعة مبادئ العدل والمساواة بين العراقيين وهذا ما تضمنه الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.