دفعني الحديث المتزايد عن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتجربة استخدام تلك التقنيات في مهنتي ككاتب صحفي فأنجزت عدداً تجريبياً من صحيفة اطلقت عليها اسم (باچر) وتعني الغد باللهجة العراقية، أيماناً مني بأهمية التفكير الجاد في المستقبل وبما يحمله من أمل.
احتوت صحيفتي على مقالات ومواد سياسية وثقافية واقتصادية ورياضية وفنية تماشياً مع تبويب الصحف التقليدية التي تحوي هذه الأبواب، فصحيفة (باچر) تشبه الصحف التقليدية، لكن المفاجأة هي إني لم أكتب شيئاً فيها باستثناء افتتاحية العدد. أما بقية المواد فقد ولّدها الذكاء الاصطناعي لتكتمل أول صحيفة متكاملة في العراق والشرق الأوسط تنتجها تقنيات الذكاء الاصطناعي بالكامل. وهي صحيفة لا تحتاج لأي موظفين فالذكاء الاصطناعي ينتج موادها بالكامل وأنجزتها من مكتبي الشخصي، بينما تحتاج صحيفة تقليدية مشابهة الى 20 شخصاً في الأقل، أو اكثر .
قلت في افتتاحية العدد ان هذه الصحيفة تصدر بعدد واحد فقط، لأن عندي شيئا أريد ان أقوله من وراء إصدار تلك الصحيفة ذات العدد الواحد. فالهدف من هذه التجربة هو لفت انتباه الزملاء الصحفيين العاملين في وسائل الأعلام والاكاديميين وطلبة كليات الإعلام إلى التحديات والفرص التي تواجه مهنة الصحافة مع ظهور الذكاء الاصطناعي، كما اني اهدف الى فتح باب الحوار حول التحديات التي تواجه العالم المعاصر بعد ظهور تلك التقنيات، وحول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وتأثيراته المحتملة على الاقتصاد والمجتمع.
هذه الصحيفة مجرد نموذج لما يمكن ان يحصل في كل مجالات الحياة الأخرى التي ستغزوها تقنيات الذكاء الاصطناعي. هذه التجربة تدعوني للحديث بمسؤولية الى صناع القرار داعياً الى الى الاستعداد للمستقبل والتعامل معه بجدية عبر إيلاء التكنولوجيا وتطبيقاتها المختلفة اهتماماً أكبر وإنشاء بنية معرفية وتقنية رصينة تتيح لأبناء البلاد التعامل بإيجابية وتفاعل مع روح العصر واحتياجاته. فالعالم من حولنا سيتغير تغيرات مجنونة لن نستطيع فهمها. لذا أدعو صانع القرار للاهتمام بلغة العالم المعاصر والتفكير بمشاريع الاقتصاد الرقمي والاستثمار في مجالات التكنولوجيا، وإحداث ثورة في قطاع التعليم، وثورة في الإدارة والتركيز على ما توفره التكنلوجيا والفضاء الرقمي من فرص.
علينا الاعتراف أولاً اننا متخلفون كثيراً في قطاع التكنولوجيا، ونحن عاجزون عن استخدامها فما بالك بتصنيعها، ويجب الاهتمام برؤى الشباب واحتواء طموحاتهم وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وتفجير طاقاتهم وتوظيفها ورسم المسارات الاستراتيجية لها.
ترى ما الذي يمكن ان نواجهه بعد خمس سنوات أو عشر، بعد ان تغزو تطبيقات الذكاء الاصطناعي كل شيء وتحل محل ملايين الموظفين في العالم؟
نحن نعاني من وجود أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل في هذا الوقت، ونعاني من البطالة المقنعة وقلة الإنتاجية، فكيف ستصبح الأمور لو غزت الآلات كل مؤسساتنا؟
يجب ان نضع في حساباتنا ان التحول الرقمي العالمي نحو الذكاء الأصطناعي لن يكون خياراً، بل سيفرض علينا فرضاً. ومن لا يرتبط بالعالم سيكون معزولاً. والتطور في هذا المجال لن يكون مثل دخول السيارات أو المكيفات او الغسالات او باقي الآلات التي نستخدمها بل سيكون تطوراً انفجاريا سريعاً.
لذا أدعو للتفكير جدياً بافتتاح كليات أو معاهد للإدارة الحديثة وعلوم التكنولوجيا التخصصية في كل مدينة من مدن العراق والتفكير جدياً للدخول في مجال التصنيع التقني، او في الأقل توفير البنية التحتية المعرفية اللازمة لمواكبة العصر، حتى نكون جزءا من عالم الغد.
لقد أنفقنا 20 سنة في السجال السياسي، وفي النقاش حول الطوائف، وحول الديمقراطية، وكرة القدم. وهذا يكفي . علينا أن نفكر بشيء آخر.