(ردّي على مقال الدكتور سليم الحسني الموسوم بعنوان:
(قوة الخرافة في الواقع الشيعي)).
(الحلقة الأولى)
التغيير السياسي الذي حصل في العراق عام 2003، كان بإِرادة خارجية، و هذه الإِرادة فرضت رؤيتها في تشكيل دولة العراق الجديد، على ضوء معايير تخدم مصالح المحتل. و اهمال كامل و متعمد لمصالح الشعب العراقي. و قد برعت الادارة الامريكية في استخدام سياسة تضليل الموطن العراقي، اعلامياً و ثقافياً و فكرياً، انها بحق تطبيق كامل لنظرية التسميم الفكري، التي تستخدمها الدول في الحرب النفسية. فتم احتكار قنوات الاعلام، و كان اولها (الصحف، لأن الفضائيات لم تكن موجودة في البداية).
تلك المرحلة كانت البداية، لتأسيس آفاق الظلام الفكري و الثقافي، و محاولة ازواء المثقف المنتج، و تبّريز دور و نشاط (المتثاقفين المتهالكين).
توضيح :- (تثاقف الشَّخصُ : ادّعى الثَّقافة، فإنَّه يتعالى و يتثاقف على الجماهير. تهالك الشخص: (تَهَالَكَ عَلَى طَلَبِ القُوتِ : اِشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلَيْهِ). (الدكتور سليم الحسني، يطلق على هذه الفئة عنوان (المثقفين المعتاشين)).
لقد اصبح (المتثاقفون المتهالكون) في العراق الجديد، لهم حضوراً ملحوظاً في الساحة الاعلامية العراقية. و اعتقد ان هذه المرحلة، كانت الفترة النشطة، لبداية تدمير الثقافة العامة، للمجتمع العراقي، الذي
كان يعاني أصلاً من حالة العَوَز الثقافي، جرّاء الظروف القاهرة التي فرضتها عليه سلطة البعث المقبور. كما ان هذه المرحلة كانت بمثابة، عملية اطلاق رصاصة الرحمة، لقتل المثقف العراقي الواعي.
أخذت أنشطة (المتثاقفين المتهالكين) تسجّل حضوراً في الساحة الاعلامية و الثقافية العراقية، لنشر الزبد و القشور بين اوساط المجتمع العراقي، فظهرت اتجاهات و تيارات و مجموعات، لا يمكن لأحد توجيه النقد البسيط اليها، فضلا عن تقديم النقد الاصلاحي لها.
في هذه المرحلة المظلمة، التي قُتِلت فيها كل احلام المثقفين المصلحين، لبناء انسان يحترم نفسه و قيمه و فكره و وطنه. و كذلك يحترم فكر الآخر و وجهة نظره، حتى لو كانت معارضة او مخالفة لأفكاره. كما دمّر الأمل في التواصل مع الآخر، بمدّ جسور التواصل، عبر المشتركات العقائدية و الفكرية و الثقافية.
ان عملية عزل و ازواء المثقف الوطني الواعي، الذي لاهمَّ له سوى الارتقاء، بالذوق و السوك الثقافي الانساني، على مستوى الفرد و المجتمع، لبناء مستقبل زاهر للشعب و الوطن. هي عملية تخريبية مدروسة بعناية، استهدفت تدمير العملية الثقافية عموماً. انتجتها عقليات لها خبرة و ممارسة، في فن الدعاية و السياسات الاعلامية، التي نجحت بشكل منقطع النظير، في انتاج ما نعاني منه الان، من ترهات فكرية و خرافات عقائدية، تقود المجتمع الى هاوية الانحراف و الضلال.
و ربما سائل يسأل، أَين إِذن دور المرجعية الدينية الشيعية، التي تعتبر الدرع الحصين، الذي يقي المجتمع من اي انحراف اجتماعي، له مساس بعقيدة الاسلام و مصلحة المسلمين؟.
اقول :
ان دور المرجعية في تحصين المجتمع و تنويره، يرتبط بصورة مباشرة، بالواقع الذي تتحكم به اجواء السياسة، و مجرياتها العامة. و لتوضيح
الفكرة، لابد من الرجوع الى تاريخ العراق في القرن الماضي، لاستقراء المواقف، التي تبنتها المرجعية الدينية الشيعية آنذاك، حيث كانت تلك الفترة، تمتاز بميزة مهمة جداً، هي وحدة الصف الوطني العراقي، و عدم وجود تصدعات طائفية و قومية، كما هو الحال في العراق بعد عام 2003.
لذا فقد دعَمَت المرجعية الدينية في حقبة القرن الماضي، تأسيس ثلاثة مشاريع رائدة، لدعم و تنمية الناحيتين، العلمية و الثقافية للمجتمع العراقي، هي :
1. تأسيس المدرسة الجعفرية الأهلية عام 1908، التي احتضنت 300 طالباً فور افتتاحها. و اخذت تتطور هذه المدرسة مع الزمن، لتضم المراحل الدراسية الثلاث (الابتدائية و المتوسطة والاعدادية). و كان المرجع السيد محمد سعيد الحبوبي، من أَوائل المشجعين لتأسيس هذه المدرسة. وقد تخرج من هذه المدرسة نخبة من اعلام العراق منهم على سبيل المثال لا الحصر:
الدكتور محمد حسن سلمان، اخصائي الامراض الصدرية.
الدكتور مصطفى جواد. العلامة اللغوي و الأديب و المؤرخ الموسوعي و الأستاذ في جامعة بغداد.
الدكتور عبد الأمير علاوي، رائد من رواد طب الاسنان في العراق، استاذ في الكلية الطبية، وزير للصحة عام 1953م، أسهم في وضع خطط تأسيس مدينة الطب، ساعد في تشريع قانون التدرج الطبي.
2. تأسيس جمعية منتدى النشر في عام 1935 في النجف الاشرف. و كان رواد تأسيس هذا المشروع، مجموعة من فضلاء حوزة النجف العلمية، كان في مقدمتهم الشيخ محمد رضا المظفر، و آخرين من الفضلاء هم:
(السيد محمد تقي الحكيم، الشيخ عبد المهدي مطر، السيد هادي فياض، الشيخ أحمد الوائلي، الشيخ مسلم الجابري، السيد محمد جمال الهاشمي، الشيخ عبد الحسين الرشتي، الشيخ محمد تقي آل صادق، السيد أحمد المقمقاني، الدكتور محمود المظفر، السيد عبد الحسين الحجار).
و باختصار شديد، أُدرج للقارئ الكريم أَهم أَهداف جمعية منتدى النشر، كنموذج رائد في مجال نشر التوعية الجماهيرية:
أ. رعاية التأليف و النشر. فقد تم نشر الكثير من الكتب بمختلف المجالات، كما تم الاهتمام بطبع المخطوطات، ذات القيمة العلمية المعتبرة.
ب. طرح الخطاب الثقافي المعاصر في المناسبات الدينية.
ج. اهتمت الجمعية بالتعليم، فأَسست مجموعة من المدارس الاهلية، ذات مناهج دراسية معاصرة، و للمراحل الابتدائية و المتوسطة و الثانوية.
3. في عام 1945 تأسست كلية منتدى النشر، وكان أبرز المشجعين لتأسيسها، المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني.
4. وفي عام 1951، تأسست كلية الفقه. و كان لمرجعية السيد محسن الحكيم، دور كبير في انجاح هذا المشروع.
في هذه الحلقة اشرت باختصار الى بعض الانشطة التنويرية، التي اسهمت في تطوير و انضاج الثقافة المجتمعية، بدعم من المرجعية الدينية الشيعية في النجف الأشرف.
في الحلقة الثانية من هذا المقال، سأتناول ان شاء الله تعالى، الحلول المقترحة للقضاء على ظاهرة التخلف الثقافي في المجتمع العراقي. و المعوقات التي تقف حائلاً، بوجه انضاج الانشطة التثقيفية، الأمر الذي يجعل المجتمع العراقي، اكثر تقبلاً للاوهام و الخرافات. و الله تعالى من وراء القصد.