23 ديسمبر، 2024 2:49 م

ها هو عراقيٌّ جديد، يدخل وحده المعركة الفريدة مع الموت، أعزل تماماً، ويخرج كالجدود، منتصراً لامعاً. ومن حقه علينا اليوم أن نعود إلى ما ترك لنا، نقبس من نوره ما نضيء به ديجورنا الأبدي. نقلّب الأوراق التي تساقطت، فنرى هذا القائد الفذ، عدوّ الإمبريالية والصيهونية، لا يجد ما يتلذذ به في ثورته البيضاء، ويجلب على نفسه الحبور والرضى غير زيارة قصر النهاية، صبحاً ومساء، لا تؤنسه غير صيحات المعذبين القادمة من الزنازين المظلمة القريبة. يضحك ملء شدقيه على هذا الجندي الذي وضعوا مؤخرته على مدفئة علاء الدين، وضغطوا عليها بالأحذية، فتصاعدت رائحة الشواء الآدمي. ما أعذب صباحاتك يا قصر الرحاب، وما أجمل أغانيك الليلية يا قصر النهاية حينما تنطلق كالنهر الدافق، تشدو بها حناجر العراقيين في الهزيع الأخير من ليالي العذاب:
لا للصباح إن عاد
عاد الجفاء
وعاد
ورقة أخرى نرى فيها هذا الطليق إبن الطلقاء وقد إحتل أركان البيت، ورمى كل ما فيه إلى المكان الذي جاء هو منه، وجاء أبوه من قبل: إلى الشارع. تناثرت آلاف الصور العراقية وطارت بها الريح. فتاة لم تبلغ الحلم، ترتدي نفنوفها الجديد في العيد، تقف حافية تنظر بدهشة إلى حركة الدولاب. ما أجمل أقدام العراقيات، سليلات الأميرات. سلمت كعوبكن.
هنا يجلس الكبير شاكر حسن آل سعيد، يرسم العابرين في شارع الرشيد. وهنا يخاف الجراح الكبير خالد الشواف من كلمة سلام يرسلها إلى الصديق العزيز، البعيد.
لا يعرف الناس ما جرى في تلك السنين غير أن أمريكا هي الباقية، كذلك الأمم المتحدة، ولجان الغوث الدولية، والزيارات المكوكية للحبيبين، الشطي، وفيليب حبيب. مائة ألف ألماني حشروا في الملعب الرياضي في تشيكوسلوفاكيا، وفتحت عليهم أبواب الجحيم، ومات الجميع في طرفة عين. في فيتنام والجزائر وسورية، ما أن تفتح الفم حتى يطير رأسك عن العنق. أسقط المنتصرون سلاحهم الحديدي، ورفعوا سلاح العبودية، فصاروا يزنون بآلاف الألمانيات في الشوارع والبيوت، وعلى مسمع ومرأى من الجميع. برقت أنياب الذئاب، ودارت أكؤوس المجون.
قل لي يا سيدي:كيف نهجر الخرائب ونعود إلى إنسانيتنا؟ كيف كان لنا أن نخترع هذه الحروف، وهذه العجلة الدّوارة؟ كيف لنا أن لا نرى الجنون المتجدد؟ كيف لنا أن نردد بصوت واحد مع الجنرال ديغول: فرنسة التي حاربت، الوحيدة فرنسة، فرنسة الحقيقية، فرنسة الخالدة؟
عدنا إليك، أبا خالد البهيّ. إلى حروفك التي سبقتنا بها إلى جنّة الخلد، وكنا نظن أننا السابقون. أعذرنا سيدي على الجهالة، فقد تركتنا وحيدين بلا زاد، كذلك تركنا صحبك المصطفون. ها قد عدت إلينا وحدك بلا صحاب
أهلاً أبا خالد
لا أدري لم كنت أسميك ناظم حكمت حينما كنتُ تلميذاً في الجامعة، وكنتَ قريباً من العراقيين في بغداد
هنا في عيون كل العراقيات
نم، قرير العين