بقلم بينديتا ارغنتاري “توماس فاونديشن”
حينما عمد بعض الرعاع الى مهاجمة ابو جاسم في احد شوارع اربيل شمالي العراق، شعر هذا الرجل بانه قد لا يجد الامان ابدا في هذه البلاد، وحتى في كردستان التي هرب اليها كي يتجنب الخطر الداهم بحياته.
يقول ابو جاسم انه تعرض للاستهداف كونه مواطنا سنيا متواجدا في وسط كردي معاد للسنة العرب الذين تكثر الشكوك حول تعاطفهم مع تنظيم داعش وتجسسهم لصالحه.
وكانت هذه الجماعة المسلحة التي تصف نفسها بكونها تتبع مدرسة اسلامية متشددة قد اعلنت عن قيام دولة خلافتها والغت الحدود ما بين شرق سوريا وغرب العراق منذ بداية صيف العام الماضي.
غير ان حملة هذه الجماعة تسببت بنزوح الآلاف من الناس مثل ابو جاسم وغيره من ابناء الاقليات الاخرى ليفروا الى عاصمة اقليم كردستان العراق التي تمكنت من ان تضل بمنأى عن معظم العنف الذي ابتليت به باقي ارجاء البلاد الاخرى.
لكن الصراع وعدم الاستقرار السياسي الى جانب محدودية الفرص الاقتصادية في هذه المنطقة التي تدافع عنها قوات البيشمركة المحلية في حربها ضد مقاتلي داعش انما تركت الآلاف من العراقيين يعانون شظف العيش هناك ليرغبوا بالرحيل بشدة.
اثناء حديث له مع مؤسسة تومسون من داخل منزله في احدى مناطق ضواحي اربيل ، قال ابو جاسم معلقا “انني بحاجة لإعطاء ولدي الاثنين فرصة لمستقبل افضل، حيث ليس هنالك من مستقبل هنا. ان كل املي ينصب على الوصول الى اوروبا وحسب”.
يقول ابو جاسم انه يحلم بالذهاب الى المانيا حيث يستطيع ولده الاكبر البالغ من العمر 17 عاما ان يتقدم الى كلية الطب ويصبح متخصصا في مجال الاشعة السينية.
ويضيف ابو جاسم الذي يحمل شهادة بالهندسة من جامعة بغداد قائلا “انني مستعد لفعل أي شيء، ولا شيء آخر يهمني بعد ذلك”.
كما هو الحال مع العديد من العراقيين في اربيل، فأن هذا ليس بالنزوح الاول لأبو جاسم وحسب. ففي العام 2005، فر ابو جاسم الى سوريا بعد تعرضه للاختطاف والتعذيب على يد جيش المهدي، تلك الجماعة الشيعية شبه المسلحة، وذلك بعد ان ادعى شريك له انه على صلة بعائلة دكتاتور العراق الاسبق صدام حسين.
لكن حينما اندلعت الحرب في سوريا قبل سنوات، اضطرت عائلة ابو جاسم الى العودة لبغداد قبل ان تقرر الرحيل الى اربيل كخيار اكثر امنا.
الاغراء الاوربي
غادر ما لا يقل عن 50000 من العراقيين ما بين شهر تموز وايلول الماضيين حسب ليز غراند من مكتب تنسيق الشؤون الانسانية التابع للامم المتحدة في العراق، وذلك بالرغم من ان احصاءات لمسؤولين آخرين تضع الرقم في مرتبة اعلى من ذلك. وفي واقع الحال، فأن اكثر من 3.5 مليون عراقي تعرضوا للنزوح من ديارهم داخل البلاد. كما ان اقلية قليلة منهم تأمل في نهاية سريعة للحرب ضد داعش.
تقول غراند ان اغاثة ودعما اكبر يمكن ان تشجع هؤلاء على البقاء. وتضيف قائلة “لو ان بمقدورنا تقديم دعم اساسي اكبر للعوائل العراقية، فأن هذه العوائل ستفكر مرتين في اوضاعها. اما اذا وفرنا التعليم لأبنائهم مع فرصة للعيش، فأن ذلك يعني اننا سنكون خلقنا بديلا معقولا لرحلة المخاطر التي يتأملونها الان”.
لكن العديد من العراقيين يجدون الالهام في آخرين، بمن فيهم اقارب تمكنوا من الوصول الى اوروبا.
عن هذا الموضوع، تعلق السيدة ساندرا بلاك التي تشغل منصب المتحدث الرسمي باسم منظمة الهجرة الدولية قائلة “ان نجاح طلائع المهاجرين بالوصول الى اوروبا، فضلا عن توفر المعلومات عبر وسائط التواصل الاجتماعي وباقي المواقع الالكترونية الاخرى، انما تبرهن كلها على امكانية اجراء الرحلة والوصول الى اوروبا فعلا”.
وتحدثت بلاك الى تومسون فاونديشن تقول “لقد سمعت عن عراقيين في اوروبا يشجعون افراد عوائلهم واصدقائهم على الالتحاق بهم قائلين لهم ان يأتوا الان بسبب ان القيود والمحددات مرنة وغير متشددة”.
في هذه الاثناء، اتصل الآلاف من العراقيين بمهربي بشر ودفعوا لهم ما لا يقل عن 6500 دولار عن الشخص الواحد بغية الوصول الى اوروبا، وذلك حسب عمال اغاثة واشخاص قرروا ان يلجؤوا هناك.
انهم يقومون برسم خريطة واضحة المعالم للمرور تبدأ من تركيا عبر زاخو العراقية. وبمجرد دخولهم الى تركيا، يتوجه العديد من العراقيين غربا الى ازمير على ساحل بحر ايجة التركي حيث ينطلقون بالمراكب الصغيرة نحو اليونان.
يقول خليل ابراهيم ربيع، وهوسني آخر، يقول انه يزمع الرحيل. ينحدر ربيع البالغ من العمر 43 من مدينة بعقوبة التي تبعد حوالي 70 كيلومترا الى الشمال من بغداد، حيث يعيش هو وزوجته في اربيل حاليا، يقول معلقا “لقد بات من الصعب ان تكون من ابناء الطائفة السنية هذه الايام. ان الناس ينظرون اليك بسوء، وهنالك الكثير من الكبرياء في هذا الكلام. انهم يتصوروننا ارهابيين.”
يقول ربيع انه تعرض للاختطاف على يد جماعة مسلحة العام الماضي، حيث لم يطلق سراحه الا بعد ان دفعت عائلته مبلغ 30000 دولار للخاطفين كفدية. و يقول كذلك ” انهارت زوجتي عندما اكتشفت امر اختفائي، وقد التقينا سويا في المستشفى حيث كنا نحن الاثنين في حال مزرية.”
وبصرف النظر عن كونه اضطر لبيع شاحنته كي يؤمن تكاليف العلاج، الا ان ربيع لا يزال يأمل في الاستفادة من المتبقي من ماله كي يستقر به خارج العراق”.
ويضيف قائلا “لقد كبرنا، وقد يكون هذا املنا وفرصتنا الاخيرة في الحصول على حياة لائقة بعيدا عن العراق.”
ثقافة تتلاشى
قد تكون الاجيال الشابة الشريحة الاكثر رغبة بالرحيل.
يقول زيد، وهو طالب جامعي طلب عدم الكشف عن اسمه، يقول انه يخطط للرحيل. وقد فر زيد من بغداد الى كردستان على امل ان يكمل رحلته للوصول الى شقيقه الذي يعيش في بريطانيا.
ويضيف زيد “لقد توفي صديقي المقرب قبل بضعة اشهر مضت. لقد تلقى اطلاقة نارية قاتلة و هو في الشارع من دون سبب محدد. ان العراق لم يعد مكانا آمنا ابدا، وان جميع الناس الذين اعرفهم اما رحلوا، اوانهم بصدد ذلك.”
لكن ابناء الطائفة العربية السنية ليسو الوحيدين الذين يسعون للحاق بركب من انطلق الى اوروبا. فمن بين هؤلاء، الاب غابرييل توما، وهو قس من مدينة القوش شمالي محافظة نينوى العراقية التي تعد منطقة مسيحية سابقة اجتاحها تنظيم داعش صيف العام الماضي متسببا بنزوح عشرات الآلاف من الناس الى خارج العراق منذ العام الماضي.
ويقول الاب توما بنبرة غضب واضحة جراء الاضطهاد الذي تعرض له المسيحيون في العراق على يد داعش “اننا اقلية دينية وليس لدينا من مكان نذهب اليه هنا.”
واضاف قائلا “ان ثقافتنا ستتلاشى وتضمحل ما لم يبق احد منا هنا،” مضيفا انه لا يريد اقناع العائلات بوجوب المخاطرة بحياتها لأجل البقاء هنا”.
لكن، لا يرغب الجميع بالرحيل.
فمن بين هؤلاء الراغبين بالبقاء في العراق، رائد ميشيل، وهو مسيحي عراقي يبلغ من العمر 42 عاما، والذي يعمل في منظمة ايطالية للإغاثة مقرها في اربيل.
ويقول ميشيل معلقا “اذا ما رحل الجميع، فلن يضل هنالك من احد ليعيد بناء هذا البلد بعد انتهاء الحرب. انه بلدنا، ولا نستطيع تركه لأي احد آخر”.